هي ظاهرة ليست بالجديدة ولا القديمة، أصبحنا نشاهدها بعد ما كنا نسمع فقط عنها، لأننا نجد بعض الأفراح تعُم حيا معينا رغم وجود وفاة وعزاء في نفس المكان، فأهل العُرس لا يبالون بالعزاء وأهل المتوفى بوجه الخصوص، إذ أننا نجد في بعض الأحيان النسوة يطلقن العنان لحناجرهن من خلال الزغاريد، وأيضا تشغيل “الديسك جوكي” لتصل الموسيقى الناتجة عنه إلى الأحياء المجاورة له، والرجال بدورهم في الخارج يرقصون ويمرحون في فناء الحي مع أبواق وأصوات السيارات المتعالية، وإشعال المفرقعات والألعاب النارية وكأن الميت ليس من قاطني الحي، وليس من جيرانهم، رغم آدائهم واجب العزاء، والترحم عليه، وهذا ما يخلق نوعا من الحساسية في التعامل بين هاتين العائلتين قد تستمر لسنوات رغم أن الشريعة الإسلامية لا تمنع هذا الفرح وأصحابه غير آثمين. هي ظاهرة بدأنا نشاهدها في أحيائنا الشعبية، رغم أن هذه الأخيرة تتميز بالتعاون والتآزر والإخاء، إلا أن هناك بعض التصرفات التي تصدر عن الجيران تؤذي مشاعر بعضهم البعض وتسبب لهم الأذى من الناحية الإنسانية حتى وإن لم يكونوا مذنبين من الناحية الشرعية وهو ما يحدث في مجتمعنا، إذ يتصادف وجود عرس مع مأتم في حي واحد وفي يوم واحد فيحتار أهل الفرح بين إعلانه بالموسيقى والزغاريد وبين مراعاة مشاعر أهل الميت والتنازل عن كل مظاهر الفرح. وفي هذا الصدد تقول “أمينة” والتي صادفت مثل هذه التصرفات: “لقد أصبحنا نشاهد هذه الظاهرة في حين كنا نسمع عنها و لا نصدقها، فلقد رأيت عائلتين متجاورتين في نفس العمارة تختلفان فقط في رقم الطابق، إحداهما في حداد والأخرى في عرس، أصوات متعالية للموسيقى والزغاريد، فهذه الأخيرة لا تبالي بمشاعر الأولى وأحاسيسها وكأنهما ليسا جيران، متجاهلين مشاعرهم وألم مصابهم”. الحَيُ أسبق من المَيِت هناك رأيٌ يعتبر أن هذه الظاهرة عادية، وأنها لا تمس مشاعر أي فرد، خاصة الأشخاص الذين لديهم حالة وفاة في المنزل، وأنه لا يمكن إيقاف العرس بمجرد سماع وفاة أحدهم في الحي، فهناك الكثير ممن يطبقون في هذه الحالة المثل القائل “الحي أولى من الميت”، وهذا ما حدث مع إحدى السيدات التي زوجت ابنها البكر في شهر جوان المنصرم، وشاء القدر أن يفارق والد زوجها الحياة أي “جد العريس”، في ليلة العرس والحفل أو ما يعرف “بليلة الحنة”، إلا أنها أتمت مراسيم العرس بأدق تفاصيله من تشغيل الموسيقى بصوت مرتفع، رغم أنها تقطن في منزل واحد مع أهل زوجها دون احترام مشاعر زوجها وأفراد العائلة التي كانت في حداد، كلهم يبكون لفراق أبيهم وسندهم في الحياة، إلا أنها هي كانت ترقص والحضور، فقد أصرت على إتمام مراسيم الزفاف كما تعودت عليه من قبل بطريقة عادية وكأن شيئا لم يحدث، إذ أن الوضع الذي أثر في سكان الحي هو وجود موكبين، واحد للعروس والثاني للميت، وقد بررت هذه السيدة تصرفاتها بكون العرس خاص بابنها البكر والأقرب إلى قلبها ومن حقها أن تفرح به، وتضيف: “إن والد زوجي عاش وقته ثم مات، ونحن علينا أن نعيش حياتنا، فلا استطيع حرمان ابني من فرحة عمره الوحيدة بمناسبة دخوله القفص الذهبي للمرة الأولى، والتي أتمنى أنه الأخير، وأحرمه من عرس كباقي أصدقائه الذين سبقوه وتزوجوا قبله بأسابيع”، وتضيف: “هذه هي سنة الحياة والتي تجبرنا على التأقلم معها، إلا انه يبقى كل ما في القلب بداخله ولا يخرج منه إلا إذا أخرجه صاحبه إلى العلن، فوالد زوجي توفي وأنا حزنت على فراقه، و كن يبقى حق ابني أسبق منه، لأن الحي أسبق من الميت”. عرس ينقلب إلى مأتم وأيضا هناك رأي مناف للرأي الأول ف«سيدعلي” مثلا هو واحد منهم يعتقد أن هناك الكثير من الأعراس التي تحولت من فرح إلى عزاء بسبب وفاة أحد الأقرباء، أو الأصدقاء، أو الأحباب الذين رافقهم في جميع أعمالهم وسفرياتهم في داخل أو خارج الوطن بحكم طبيعة عمله”، فكم من جدٍ، أبٍ، أمٍ، أخٍ، تولى عملية الإعداد والتجهيز لعرس معين، إلا أنه و ن سوء الحظ فاجأته المنية و لم يحضر، إثر تعرضه لحادث معين أو لمرض قاتل كالسكتة القلبية وانخفاض أو ارتفاع الضغط الدموي أثناء متابعته عملية التحضير لوليمة العرس، وهذا ما حدث منذ ستة أشهر تقريبا في الحي الذي أسكن فيه، فقد توفي والد العروس قبل يوم من زفاف ابنته في حادث مرور وهو عائد من السوق بعد إتمام شراء بعض القطع من الحلي لابنته التي طلبت منه فعل ذلك، فشاء القدر أن يموت الأب ولا يتم التحضير الكلي للعرس، ويتحول فيما بعد هذا الفرح والعرس إلى مأتم وعزاء، ويواصل التحدث قائلا: “... يجب على الأحياء الدعاء للميت أيا كان والمشي في جنازته وإقامة العزاء له، وهذا العمل احتراما له بالدرجة الأولى ولأهله في المقام الثاني، كما أن من حق الميت على الأحياء دفنه وإقامة العزاء على فراقه، والتي أثبتها القرآن الكريم وجاءت السيرة النبوية وبينتها”. وفي هذا الصدد تضيف أستاذة في التعليم المتوسط بجسر قسنطينة “الموت حق، وهي مصير كل إنسان على وجه الأرض، لأن كل من عليها فانٍ، و لا يبقى إلا وجه الله سبحانه و تعالى، ويجب علينا احترام الأموات وعائلاتهم والإحساس بمشاعرهم، فممكن أن نكون نحن في ذلك الوضع، فأنا شخصيا لا أستطيع تحمل ذلك الشيء، فإذا حدثت وفاة في بيتي وكان أحد جيراني لديه عرس، ثم أتمه في صمت بدون موسيقى وزغاريد، احتراما لمشاعرنا، فهذا الأمر سوف يؤنسنا حتما ويخفف من مصيبتنا”. أما “أمينة” فتقول: “مهما كانت النتيجة واحدة، إتمام العرس علنا أو سرا، من خلال استخدام الموسيقى العالية أو المنخفضة، فأكيد أن أهل المتوفى لن ينسوا أبدا تجاهل جيرانهم لحزنهم على من فقدوه، خاصة إذا تزامن العرس مع الوفاة، أو العكس إذا ساندوهم ووقفوا معهم في مصابهم الأليم، ولكننا نأمل حدوث فعل هذا العمل لنبقى محافظين على علاقة الجيرة الطيبة التي تربط الجيران ببعضهم في وقت الشدة وفي الفرح، والمهم هو تلاحمنا وتآزرنا في الوقت العصيب ووقت الشدة”. ...وللدين رأي في هذا الخصوص ولمعرفة رأي الدين في هذه الظاهرة التي أصبحنا نشاهدها، اتصلنا بالدكتور “عبد الحميد قابة” أستاذ بكلية العلوم الإسلامية بجامعة الجزائر والذي أكد لنا بأن ليس هناك حكم شرعي بخصوص هذه الظاهرة، إلا انه ومن باب الذوق والأدب مراعاة مشاعر وأحاسيس أهل المتوفى، ويضيف برغم أن أهل العرس لم يخفضوا من أصوات الموسيقى سواء كان سهوا أو عمدا، فهذا ليس له حكم عليهم وليسوا آثمين، إلا من باب مراعاة شعورهم والرأفة عليهم، ولا يجوز اعتباره خطأ.