هو إبن علامة فلسطين سعيد الكرمي أحد طلائع النهضة العربية المعاصرة الذي حكمته المحكمة العرفية في عاليه بالإعدام، وخُفض الحكم الى المؤبد نظراً لشيخوخته. وسعيد الكرمي أحد مؤسسي المجمع العلمي العربي في دمشق، ونائب رئيسه، وتولى منصب قاضي القضاة في حكومة شرق الأردن، وأسس أول مجمع علمي في عمان. وعبد الكريم الكرمي هو شقيق الصحافي المعروف محمود الكرمي، وشقيق الكاتب اللامع عبد الغني الكرمي، وشقيق اللغوي المشهور حسن الكرمي صاحب برنامج «قول على قول»، وكذلك الكاتب أحمد شاكر الكرمي. شهد الجنود الأتراك وهم يقتحمون منزله لاعتقال والده وسوقه الى المحكمة في عاليه، ولم يكن تجاوز الخامسة. وقد أورثته هذه الحادثة غضباً مكتوماً عبر عنه لاحقاً في قصائده الوطنية الجامحة. وإذا كان مشهد الجنود الأتراك وهم يسوقون والده الى الاعتقال قد وسم شعره بميسم من نار، إلا أن شعره المصقول ما كان في إمكانه أن يرقَّ حيناً ويجرح أحياناً لولا مجالس الأدب والشعر في دمشق التي كان لوالده ولشقيقه أحمد شاكر شأن مهم فيها. في فلسطين تفتح وعيه السياسي. وفي دمشق تفتحت قصائده الأولى، ونال لقبه الذي لازمه حتى الممات، أي أبو سلمى. فقد نظم في سنة 1924، وكان لا يزال في مكتب عنبر، قصيدة في إحدى الفتيات مطلعها: سلمى انظري نحوي فقلبي يخفِقُ لما يشير إليَّ طرفُك أُطرِقُ وكان أستاذه آنذاك محمد الداودي، فأطلق عليه، بعد شيوع هذه القصيدة البدائية، لقب «أبو سلمى»، مع أنه كتب قصائد لاهية وعابثة أحياناً بحسناوات من دمشق والقدس أمثال ليلى ولبيبة وهدى ونهيل وندى وزينب وإيلين. وحتى بعد أن تزوج رقية بنت توفيق حقي في 16/1/1936، وأنجبت له ابنه الوحيد سعيد في سنة 1939 (وهي التي كتب لها ديواناً عنوانه «ذات الخال») لم يتخلَّ عن اسم «أبو سلمى» قط. هو البيدر الشعري الذي درس فيه شعراء فلسطين كلهم، وهو الجذع الذي نبتت منه وعليه أغصان الشعر الرومانسي في فلسطين. وفي قصائده اشتبك عشق المرأة وعشق الجمال وعشق بلاده في تكوين شعري بديع، فكانت قصائد العشق تجعل العجوز تحنّ الى صباها، وكانت قصائده الوطنية تلهب أفئدة الناس بنيران حارقة، وقد نالت قصيدته «لهبُ القصيد» التي كتبها في خضم ثورة 1936، شهرة عظيمة، وطارت في ديار العرب، وكان جمال عبد الناصر يحفظ أبياتاً منها، ويقول مطلعها: أُنشرْ على لهبِ القصيدِ شكوى العبيدِ للعبيدِ شكوى يرددها الزمانُ غداً إلى أبد الأبيدِ لم يكن للطفولة أي أثر في شعر عبد الكريم الكرمي، كأنما هذا الفتى قد كبر فوراً مثل طفل الحكاية، وكأن شعره قد نضج مبكراً جداً. ولعل النيران الفلسطينية عركته في مرجلها، فجعلته يطوي المراحل العمرية رغم إرادته، ووضعته في مواجهة أقداره وأعدائه معاً. ففي 15/1/1936 نشرت مجلة «الرسالة» القاهرية قصيدة يخاطب فيها المندوب السامي البريطاني الذي كان مقره يقع فوق جبل المكبر، ومنها: جبل المكبر طال نومك فانتبه قُمْ واسمعٍ التكبير والتهليلا جبل المكبر لن تلينَ قناتُنا حتى نحطمَ فوقك الباستيلا بعد نشر هذه القصيدة فصلته إدارة المعارف من سلك التعليم. لكن صديقه ابراهيم طوقان الذي كان آنذاك مديراً للبرامج العربية في الإذاعة الفلسطينية طلب إليه الانضمام الى الإذاعة، فالتحق بها. كان الثلاثي ابراهيم طوقان (أبو جعفر) وعبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) وجلال زريق (أبو رعد) يؤلفون عصبة شعرية رفيعة، فكتبوا قصائد وطنية لامعة، وأشعاراً عابثة، وأناشيد مدهشة، وغزليات رقيقة. وشكل هؤلاء شوطاً فريداً في مسيرة الحركة الشعرية في فلسطين. ومع أن جلال زريق (سوري من اللاذقية) كان أقلهم اهتماماً بالشعر، بل كرس جهده لتعليم الرياضيات، إلا أن كثيراً من القصائد المنسوبة الى ابراهيم طوقان، على سبيل المثال، هي إبداع مشترك للثلاثة معاً. ولعل حصة ابراهيم كانت الأوفر فنُسبت كلها إليه، مثل «التائية» المعروفة وهي قصيدة هاذية ومكشوفة، على غرار قصيدة «ياتين ياتوت يا رمان يا عنب» التي توزعت بين حافظ جميل (من العراق) ووجيه البارودي (من سورية) وابراهيم طوقان، والتي نُظمت في فتاتين دمشقيتين جميلتين هما ليلى تين وشقيقتها أليس كانتا تدرسان في الجامعة الأميركية في بيروت. كان الثامن والعشرون من نيسان 1948 يوماً عصيباً لعبد الكريم الكرمي؛ فقد أُرغم على ركوب زورق من ميناء حيفا الى ميناء عكا، ومن هناك الى سورية عبر جبال الجليل، ولم يكن معه إلا مفاتيح بيته ومكتبه ورواية شعرية عن ثورة القسام وثورة 1936 كتب مقدمتها ابراهيم عبد القادر المازني. لكن تلك الرواية ضاعت وفُقد أثرها. ويروي المحامي الفلسطيني (الدمشقي الجذور) حنا نقارة في مذكراته أن أبا سلمى كان يحتفظ في مكتبه بعمارة الكرمليت في حيفا بقصاصات مهمة تتضمن مناقشاته مع الدكتور زكي مبارك من مصر، ومع خير الدين الزركلي وسامي السراج من سورية، ومقالات له ولابراهيم طوقان منشورة في جريدة «مرآة الشرق» المقدسية وفي جريدة «فلسطين» اليافاوية في النصف الأول من ثلاثينيات القرن العشرين. وقد تمكن الشاعر عصام العباسي من إنقاذ هذا الأرشيف وأودعه لدى حنا نقارة، ولاحقاً، سعى أصدقاء أبو سلمى، واتخذوا الترتيبات لتسليمه الأرشيف في براغ، لكن المنية عاجلته ولم يقيض له أن يراه ثانية. فقد تقاطرت عليه المآسي والأمراض دفعة واحدة، فتوفيت زوجته في دمشق سنة 1978، وتوفي ابنه الوحيد سعيد في الولاياتالمتحدة الأميركية في سنة 1979، فلحقه بعد وقت قصير جراء عملية جراحية في موسكو ثم في واشنطن.لكنه عاد الى دمشق ليدفن في ترابها.