خمس سنوات مرت من عمر المدينة في العهدة التي تكاد تنقضي وتقضي على ما تبقى من أمل في نفوس أهلها، هي نفسها خمسون سنة مضت من الخطاب الذي ألقاه العقيد شعباني في مدينة مسعد متحدثا فيه بصراحة عن تسرب عملاء لفرنسا داخل جيش الحدود، وبين الاثنين مدة كبيرة ظهرت فيها أجيال جديدة لا تعرف من هو العقيد شعباني، ولا تعرف إن كانت مسعد التي نعيش بين جنبيها اليوم والتي القي فيها هذا الخطاب، هي نفسها تلك المدينة التي كان يقال فيها كلام كبير بحجم ما قاله العقيد شعباني وأودى به إلى الإعدام، خمس سنوات ضاعت من عمر المدينة وخمسون سنة ضاعت من عمر كل الجزائر. التاريخ شاهد على أن الذين مروا من هنا، من الرومان في عهد الإمبراطور الروماني "سيبتيموس" إلى غلاة الفرنسيين، جميعهم قد رحلوا ولم تبق إلا شواهد من حجارة لقلعة "كاستيليوم" في سفح الجبل، أو رفات لشهيد مدفونة في مقبرة الشهداء، فالمدينة التي زارها العظماء من أمثال الأمير عبد القادر سنة 1836 إلى الرئيس هواري بومدين في عهد الاستقلال، هي نفسها المدينة التي تعاقب على حكمها ثلة من أبناء المدينة، ففعل بعضهم تماما كما فعل التتار في عاصمة العباسيين بغداد. ولعل "ابن العلقمي" الذي فتح أسوار المدينة لجيوش هولاكو هو ذاته ابن العلقمي في صورته لأحد أبناء المدينة الذين فتحوا أبواب المدينة للصوص والسكارى وقطاع الطرق والأوباش ليعيثوا فيها فسادا كما فعل التتار حين دخولهم بغداد، لعل التاريخ يكرر نفسه، ولعل المقارنة لا تجوز بأي حال من الأحوال بمقياس الزمن والتاريخ، لكنها بمقياس الألم والجحود والتنكر للمدينة قد تكون مقارنة جائزة لمدينة كانت كبيرة فأراد لها البعض أن تصغر لتصل إلى حجم تفكيره. "بين الذين أهدروا ماضينا، والذين يصرُّون على إهدار مستقبلنا"، يقف شبابنا اليوم في حيرة من أمرهم بحثا عن الفرسان الذين بإمكانهم إخراج المدينة من عزلتها وتأخرها، وإذا كان البعض يرى في كثير من المترشحين وجوها مألوفة ألفت الترشح والتربح فإن الطريق واضح لا لبس فيه في اختيار العناصر الشابة والراغبة في تغيير الواقع الأليم، والتي تريد إخراج المدينة من سباتها والمساهمة في تنميتها. ولعله من الواجب أيضا أن يصمت البعض ممن ينصبون أنفسهم قضاة لاتهام جميع المترشحين، ليجعلوا أنفسهم وهم الذين لا يجيدون إلا لغة الانتقاد أوصياء على المبادئ والأخلاق والقيم والمثل العليا دون أن يفعلوا أكثر من الانتقاد وتوجيه التهم الجاهزة للجميع دون استثناء. المعركة إذا بدأت لتخليص المدينة من كل ما ينغص عيش أهلها، وطريق الألف ميل تبدأ بخطوة، ولا شك في أن المدينة التي أنجبت الشيخ عبد القادر بن إبراهيم والشيخ أحمد بن عطية والحاج أحمد بن دحمان والرايس محمد و غيرهم من العلماء قادرة على اختيار الأفضل لقيادتها وقادرة على قهر التخلف والتأخر، بيد أن ذلك يتوقف أولا وأخيرا على إرادة أهلها، فالتاريخ سوف يبدأ من التاسع والعشرين من شهر نوفمبر القادم، و لكنه بالتأكيد لن يتوقف بعد خمس سنوات فهل يكون القادم أجمل وأحلى؟