هناك حالة من الهيستيريا تجتاح الولاياتالمتحدةالأمريكية وحلفاءها الأوروبيين بسبب تدخل الروس عسكريا في شبه جزيرة القرم الأوكرانية، ويعتبرون هذا التدخل غير شرعي وغير قانوني. لسنا هنا في صدد الإغراق في تفاصيل الأزمة وجذورها، فقد سال حبر كثير في هذا المضمار، لكن ما نريد التوقف عنده هو هذه اللهجة الأمريكية التهديدية للروس بالمقاطعة التجارية والحصار الاقتصادي والعواقب (الوخيمة) الأخرى حتى لكأن روسيا جزيرة (غرانادا) أو دولة بنما الصغيرة، وليست دولة عظمى تملك قنابل نووية وأوراق اقتصادية وحلفاء في وزن الصين والهند. شبه جزيرة القرم روسية، أهداها الرئيس الروسي خورتشوف إلى أوكرانيا عندما كانت جزءا من الاتحاد السوفييتي وهو في حالة ثمالة، والغالبية العظمى من سكانها من أصول روسية، وكذلك أجزاء كثيرة من شرق أوكرانيا، وما كانت الأمور تصل إلى هذه الدرجة من التوتر لولا التدخلات الأمريكية السافرة في الفناء الداخلي الروسي. جون كيري وزير الخارجية الأمريكي يهدد بطرد روسيا من مجموعة الدول الثماني الكبرى، وفرض عقوبات اقتصادية ضدها، وتهدد دول الاتحاد الأوروبي التي عقد وزراء خارجيتها اجتماعا طارئا لبحث هذا الأمر، بالإجراءات نفسها مثل الببغاوات وهي التي ستدفع ثمن أي حرب أو حتى حصارات اقتصادية، بينما أعلن رئيس وزراء أوكرانيا الجديد صارخا (إننا على أبواب كارثة)، واستدعى الاحتياط كرد على التدخل الروسي في القرم، وألغى قرارا سابقا باعتبار اللغة الروسية، التي يتحدثها أكثر من نصف السكان كلغة رسمية للبلاد في استفزاز متعمد لهؤلاء ومشاعرهم وثقافتهم، مثلما هو استفزاز لروسيا وقيادتها. الغالبية العظمى من الشعب الأوكراني صوت ضد الانضمام إلى حلف الناتو في استطلاعات رأي محايدة مثلما صوت ضد إلغاء المعاهدات الاقتصادية مع روسيا لحساب الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، حتى إن الرئيس الأوكراني المنتخب فيكتور يانوكوفيتش جعل من معارضيه الانضمام لحلف الناتو على قمة برنامجه الانتخابي ونجح بسبب ذلك ولاعتبارات أخرى، ومع ذلك يقرع المستر اندرياس فوغ راسمسن طبول الحرب، ويتأهب للتدخل، ويقول في مؤتمر ميونخ للأمن (لولا هذه الوحوش الروسية لكانت أوكرانيا جزءا منا). هذا هو الفجور الأمريكي الأوروبي في أبشع صوره وشاكلته، فأي دولة لا تخضع للشروط الأمريكية عليها أن تواجه الحرب أو الحصار لشعبها، أو الاثنين معا، صغيرة كانت مثل غرانادا أو دولة عظمى جبارة مثل روسيا. من المعيب أن تصف الإدارة الأمريكية التدخل العسكري الروسي في شبه جزيرة القرم بأنه غير شرعي، فهل كان تدخلها الدموي في العراق وأفغانستان شرعيا؟ وهل دعمها اللامحدود للعدوان الإسرائيلي على الأمة العربية واحتلال شعوبها ومطالبتها للشعب الفلسطيني الأعزل بإسرائيل دولة يهودية عنصرية أخلاقيا وقانونيا أيضا؟ أمريكا تدخلت عسكريا وقتلت أكثر من مليون عراقي تحت ذرائع كاذبة بوجود أسلحة دمار شامل، ولنشر قيم العدالة والديمقراطية، والشيء نفسه فعلته في كل من ليبيا وسورية بطرق مباشرة أو غير مباشرة، ولكنها تفعل عكس ذلك تماما في أوكرانيا، وتحشد البوارج الحربية وتهدد بالعقوبات لدعم انقلاب على رئيس شرعي منتخب في انتخابات حرة نزيهة، بغض النظر عن كل الاتهامات له بالفساد، ونحن لسنا معه إذا ثبت فساده فعلا، ولكن من يحاسبه هو القضاء وليس الوزير كيري. كان أمرا مثيرا للسخرية أن يتحدث الإعلام الغربي عن قصر الرئيس الأوكراني يانوكوفيتش وبذخه، فمن يتأمل الصور التلفزيونية يجد أن القصر المملوك أساسا للدولة وسياراته أيضا يتواضع جدا أما قصور رؤساء ورؤساء وزارات أوروبيين، ونحن لا نتحدث هنا عن قصور ملوكنا وأمرائنا ورؤسائنا العرب. استخدموا الأسلوب الرخيص في الحديث عن قصور الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، وبهدف التشويه والتحريض والتضليل نفسه، ورددنا على ذلك في مقابلاتنا التلفزيونية بأن هذه القصور ستبقى للشعب العراقي، مثلما بقيت قصور أسرة محمد علي ومن قبلها مقابر الفراعنة (الأهرامات) للشعب المصري، وهذا ما حصل فعلا فمن يقيم في قصور صدام الآن في العراق؟ ومن سيقيم في قصر الرئيس الأوكراني المعزول لاحقا؟ أمريكا تعيش حالة من السعار، وتريد جر العالم إلى حرب عالمية ساخنة، ومن المؤسف أن أوروبا تجاريها في ذلك، وتلهث خلف نواياها التدميرية هذه وهي مفتوحة الأعين. الاتحاد الأوروبي تقدم بمبادرة حملها مبعوثوه إلى أوكرانيا لحل الأزمة بالطرق السلمية، ووافقت جميع الأطراف عليها، بما في ذلك الرئيس الشرعي المنتخب، تنص على إجراء انتخابات رئاسية مبكرة في ماي المقبل، لكن المتظاهرين المتطرفين، والمحرضين (بضم الميم) من قبل الإدارة رفضوا هذه المبادرة وأجهضوا آخر فرصة للحل السلمي. نفهم أن الديمقراطية هي حكم صناديق الاقتراع والاختيار الشعبي الحر، ولكن يبدو أن الولاياتالمتحدة ترى مفهوما آخر، أي تحريض الشعوب للثورة، والاعتصام في الميادين العامة وسط كييف للإطاحة بحكومة ورئيس منتخبين لأن هذا الرئيس ليس صديقا لها، ولا يأتمر بأمرها. أمريكا قد لا تخرج فائزة من (محنة كييف) ليس لأنها ضعيفة، وإنما لأن قيادتها لا تدرك أن العالم تغير، وأنها لم تعد القوة العظمى الوحيدة فيه، وأن التقارب الروسي الصيني في ذروته، وأن ساكن قصر الكرملين ليس يلتسين المخمور، ولا غورباتشوف المستسلم، وفوق كل هذا وذاك إن أمريكا باتت عنوان الكراهية في العالم بأسره لتدخلاتها العسكرية الدموية. أوكرانيا على حافة الهاوية، وقد تجر العالم بأسره خلفها إذا ما انهارت واستمر الغرب وأمريكا في سياسته المسعورة الساعية للمواجهة العسكرية ولا بديل في رأينا عن الحوار للخروج من هذه الأزمة قبل أن تحرق العالم بأسره. * رئيس تحرير صحيفة رأي اليوم اللندنية