أمر مؤسف أن يتم اختزال القضية الفلسطينية هذه الأيام في الحرب المخجلة المستعرة حاليا بين الرئيس الفلسطيني محمود عباس و(خصمه) العقيد محمد دحلان، حيث يتبارى الرجلان في (فضح) بعضهما البعض على الملأ، وتقديم الأدلة والبراهين على تورط كل منهما في جريمة اغتيال الرئيس الراحل ياسر عرفات، ودس السم له تلميحا أو تصريحا. نشعر بالخجل ونحن نتابع مسلسل الاتهامات بالفساد ونهب عرق الفقراء والكادحين، والقتل للمناضلين والمجاهدين، والعمالة للإسرائيليين، والتآمر على قيادات المقاومة، وتسهيل عمليات تصفيتها من قبل العدو الإسرائيلي. أصبح الفلسطينيون (أضحوكة) في نظر الكثير من الأشقاء العرب الذين تابعوا هذا المسلسل المقرف وفصوله بالصوت والصورة على لسان بطليه، فهل من أجل قيادات كهذه استشهد آلاف العرب، وخاضوا معارك طاحنة ضد إسرائيل، وخسروا أراضيهم وأرواحهم وثروات بلادهم التي جرى توظيفها، كليا أو جزئيا في معارك الشرف والكرامة؟ لا نعرف كيف يهبط محمود عباس أحد القادة التاريخيين لحركة (فتح) إلى هذا المستوى المتدني، ويخصص أكثر من ساعة كاملة للحديث عن خصومته مع دحلان وسرد أدلة إدانته بقتل عرفات، ثم من هو دحلان هذا حتى يكون خصما له؟ وكيف تقبل حركة (فتح) المليئة بالشرفاء بهذه الفضيحة وتسمح بها وتصمت عنها؟ ولماذا يذكر كل هذه الحقائق الآن وبعد تسع سنوات من اغتيال عرفات. أليس من العيب، أن يبريء فلسطينيون إسرائيل من هذه التهمة المثبته عليها من قبل مختبرات عالمية، قالت إن لا أحد في العالم يملك هذا النوع من السموم المستخدمة في قتل الشهيد غيرها ودولتان أخريان هما الولاياتالمتحدةالأمريكية وروسيا. أليس من العار أن ننشغل بالأدوات ونترك المجرم الحقيقي الذي وجههم وزودهم بالسم، وقال لهذه الأدوات اذهبوا واقتلوا زعيمكم الذي استشهد لأنه رفض التنازل عن القدس وحق العودة وكل الثوابت الوطنية وفضل أن يموت شهيدا محاصرا. سجل العقيد محمد دحلان معروف ويعرف تفاصيله كل مواطن فلسطيني، ولكن ألم يكن دحلان هو الحليف والداعم لعباس، ألم يتآمر الرجلان سويا لإطاحة به، وسحب كل صلاحياته، وقطع الأموال عنه، والتنسيق مع الأمريكيين والإسرائيليين لتهميشه لأنه ليس شريكا صالحا في عملية السلام لأنه، أي عرفات، ارتكب إثم تفجير الانتفاضة الثانية المسلحة، ورفض أن يوقع صك التنازل عن قيمه وقضيته في مؤتمر كامب ديفيد؟ بعد الاستماع إلى هذه الاتهامات المتبادلة بين عباس ودحلان حول دس السم للمرحوم عرفات سيشعر الإسرائيليون حتما بالنشوة والانتصار، وسيمدون لسانهم للعالم بأسره، ولكل مراكز البحوث السويسرية، التي أشارت بأصابع الاتهام إليهم فقد تحولوا إلى حملان وديعة أمام الذئاب الفلسطينية الكاسرة التي تمزق بعضها بعضا أمام الملأ. شخصيا لا أعرف كيف أخفي وجهي خجلا وأنا الذي ظهرت في أحد البرامج المشهورة في التلفزيون البريطاني (بي بي سي) ويحمل اسم Dateline مؤكدا أن إسرائيل هي التي قتلت عرفات، فتصدى لي كاتب يهودي بريطاني مشهور، وقال ألم يكن لعرفات بعض الخصوم الفلسطينيين الذين كانوا يريدون التخلص منه في ظل صراعاتهم على خلافته. أجبته بنعم، ولكني قلت له، من أين سيأتي هؤلاء الخصوم بسم (البولونيوم) الإشعاعي الذري؟ هل سيحضرونه في مفاعلاتهم النووية الضخمة والمتقدمة في مخيمات غزة الفقيرة البائسة، أم في مخيم بلاطة المتهالك في نابلس؟ أم مخيم الدهيشة في بيت لحم القريب من رام الله؟ مسكين هذا الشعب الفلسطيني الذي قدم آلاف الشهداء، ووثق بهكذا قيادات، وقدم لهم أبناءه اعتقادا منه أنهم الشرفاء الذين سيقودنه إلى النصر واستعادة حقوقه المغتصبة. كنت أود أن أختم هذه المقالة بالمطالبة بتشكيل لجنة تحقيق فلسطينية للتحقيق في هذه الجريمة، ولكني تراجعت، لأن لا حاجة لمثل هذه اللجنة، فالطرفان مدينان لبعضهما البعض بطريقة أو بأخرى ويقدمان الأدلة، ثم مِن مَن نطالب بتشكيل هذه اللجنة، ومن سيكون الأعضاء فيها، ومن سيتولى رئاستها؟ رجالات السلطة أم قضاتها؟ أم أعضاء لجنتها المركزية الذين صمتوا عن كل هذه الجرائم طوال السنوات الماضية، وأخفوا الأدلة والبراهين، خوفا على امتيازاتهم، وتمسكا بمناصبهم وألقابهم. هذه السلطة التي لم تحقق مطلقا بظروف استشهاد قائدها التاريخي المؤسس، ومنعت، بل وهددت، كل من يقترب من هذه القضية بالعقاب الشديد، لأنها تعرف جيدا من هو القاتل ومن هم الأدوات. نعتذر لجميع الإخوة العرب عن السفهاء وأفعالهم، ونقول لهم إننا فشلنا ولم نستطع مداراتهم، أو معاقبتهم على جرائمهم وأفعالهم، ولكننا نؤكد أن الشعب الفلسطيني بريء منهم ومن أفعالهم، فهذا الشعب النقي المناضل الصابر الذي لم يبخل على أمته وقضيته ودمه، هو عنوان الشرف والكرامة بشهدائه وأسراه ومجاهديه. * رئيس تحرير صحيفة (رأي اليوم) الإلكترونية