بقلم: عامر راشد تتوالى تداعيات توقيع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على اتفاق مع حكومة جمهورية شبه جزيرة القرم ذاتية الحكم، وإلى جانبها مدينة سيفاستوبول، يقضي بانفصال القرم وسيفاستوبول عن أوكرانيا وانضمامهما إلى الاتحاد الروسي. ويعكس الخطاب الرسمي الروسي ثقة عالية لدى الكرملين بأن ردود الأفعال الأمريكية والأوروبية الغربية لن تعيد عجلة التاريخ إلى ما قبل السادس عشر من مارس 2014، حين صوت 95 بالمائة ممن شاركوا في الاستفتاء الذي أجري في شبه جزيرة القرم لصالح انضمامها إلى روسيا. ولم تستطع الضغوط والانتقادات الغربية أن تثني موسكو عن دعم الاستفتاء، تحت مسمى حق تقرير المصير لشبه جزيرة القرم، ومن ثم فرض انضمام القرم وسيفاستوبول لروسيا كأمر واقع. الرئيس الروسي عبَّر عما سبق في كلمة ألقاها في الكرملين (18/3/2014) بتوجيه انتقادات قاسية للمسؤولين الأمريكيين والأوروبيين الغربيين واصفا إياهم بأنهم (تجاوزوا كل الخطوط الحمراء وتصرفوا على نحو وقح، وفقدوا الإحساس السياسي، حتى أنهم عجزوا عن استشفاف عواقب سلوكهم، في حين كان عليهم أن يدركوا أن روسيا لا تستطيع التراجع والتقهقر، ولا يسعها إلا أن تدافع عن مصالحها). فرصة تاريخية في خلفية التقدير الرسمي الروسي، للخطوات إزاء القرم ومدينة سيفاستوبول، ما كان لروسيا أن تتوانى عن انتهاز فرصة تاريخية لن تتكرر، ويمكنها من خلالها، حسب وجهة نظرها، تصويب أحد الأخطاء الكبرى التي ترتبت على حل الاتحاد السوفياتي عام 1991، وألحقت بالاتحاد الروسي خسائر جيوسياسية إستراتيجية. وكما أكدت موسكو أكثر من مرة سابقا، يتعدى هذا الخطأ شبه جزيرة القرم ليشمل إعادة رسم الحدود في العديد من المناطق المتنازع عليها بين روسيا والدول السوفياتية السابقة. لذلك سيكون ما حدث في القرم بمثابة سابقة سيجري البناء عليها، ضم أو انضمام مناطق أخرى جديدة لروسيا، أقربها إلى التطبيق ضم (جمهورية بريدنيستروفييه) المعلنة من جانب واحد في شرق جمهورية مولدافيا السوفياتية السابقة، حيث قدَّم رئيس برلمان (بريدنيستروفييه) ميخائيل بورلا، طلبا إلى رئيس البرلمان الروسي، سيرغي ناريشكين، لإدخال تعديل دستوري روسي يسمح بانضمام (الجمهورية) المذكورة للاتحاد الروسي. وفي السياق ذاته، من المتوقع تحريك ملف انضمام أوسيتيا الجنوبية للاتحاد الروسي، وكان هذا الاقتراح قد طرح من جانب نائب برلماني فيها عام 2008، ولم يستبعد حتى اللحظة رغم إعلان رئيس الجمهورية لاحقا، إدوارد كوكويتي، بأن أوسيتيا الجنوبية لن تتخلى عن خيار استقلالها. ومن غير المستبعد أيضا أن تتطور الأمور بالنسبة لجمهورية أبخازيا باتجاه البحث عن رابط مع الاتحاد الروسي، مع إدراك أن هذا الاحتمال أكثر تعقيدا من كل الحالات الأخرى المشار إليها، بحكم تعقيدات التركيبة الديموغرافية في أبخازيا، لكن مع ذلك يجب عدم إهمال مؤشرين مهمين في خلفية أي تقييم لمدى جدية احتمال طرح موضوع الانضمام لروسيا مستقبلا. المؤشر الأول: صوّتت الغالبية في أبخازيا عام 1991 ضد حل الاتحاد السوفياتي والانفصال عنه، وما زالت استطلاعات الرأي تؤكد أن الأبخازيين يعتبرون أن حل الاتحاد لم يكن صائبا. المؤشر الثاني: حالة العداء الشديد مع جورجيا قد تدفع حكومة أبخازيا إلى قرار اضطراري للانضمام إلى الاتحاد الروسي، في حال كان ذلك ثمنا لابد منه لمنع العودة إلى سيادة العدو الجورجي. ومن الجدير بالذكر أن غالبية المواطنين في أبخازيا يحملون جوازات سفر روسية، كما تدفع للمتقاعدين منهم معاشات من قبل الحكومة الروسية، وعمليا يعتمد الاقتصاد الأبخازي على العلاقة مع روسيا، ناهيك عن الروابط العسكرية والسياسية، بما يجعل العلاقة بين روسيا وأبخازيا أقرب ما يكون إلى انضواء الأخيرة في عداد الأولى. وتنظر روسيا إلى احتمال انضمام أبخازيا إليها كمكسب إستراتيجي لا يقل كثيرا عن مكسب انضمام شبه جزيرة القرم، إذ أن أبخازيا تضم أكثر من نصف ساحل جمهورية جورجيا بالحدود التي كانت معروفة بها في ظل الاتحاد السوفياتي السابق. لكن قد توظف موسكو احتمال فتح ملفي انضمام أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا للاتحاد الروسي كورقة مساومة مع واشنطن والعواصم الأوروبية، لتمرير عودة شبه جزيرة القرم للسيادة الروسية، على أن تبقى الأبواب مفتوحة مستقبلا للجمهوريتين المنفصلتين عن جورجيا، وربما مناطق أخرى. الثقب الأسود على حد وصف صحيفة (فايننشال تايمز) البريطانية لتطورات قضية شبه جزيرة القرم، وتداعياتها المحتملة، يراهن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على ضعف الدول الغربية، لجهة عدم امتلاكها لأدوات فعالة تضغط فيها على روسيا وتجبرها على التراجع. فالدوائر السياسية الأمريكية والأوروبية تكرر تحذيرات مفادها أن ما وقع بالنسبة للقرم يأتي في سياق نظرة جيوسياسية أشمل تحكم توجهات الرجل القوي في الكرملين، وترى أن ملامح ذلك بدأت تظهر بوضوح في مطلع الولاية الرئاسية الثانية عام 2004، لكن تم تأجيلها إلى حين توافر ظروف مواتية. وعليه يمكن تفهم خلفية التحليلات الأمريكية والأوروبية القائلة بأن ضربة القرم أتت كضربة متأخرة على خطوة دعم الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي لاستقلال كوسوفو عن صربيا في فيفري 2008، رغم الاعتراضات الروسية القوية آنذاك. ويلخص رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الروسي، أليكسي بوشكوف، التقديرات الروسية لما سترسو عليه المواقف الأمريكية والأوروبية الغربية، بعدما وقع في شبه جزيرة القرم، بالقول (إن الغرب سيضطر، رغم عقوباته، إلى إيجاد لغة تفاهم مشتركة مع روسيا لكي تستقر أوضاع أوكرانيا لأن عدم استقرار أوكرانيا معناه وجود الثقب الأسود في أوروبا). ويتعدى هذا التهديد المبطن، على لسان بوشكوف، الأزمة الأوكرانية ليستحضر قدرة روسيا على إثارة ملفات شائكة في وجه الولاياتالمتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، إذا أقدمت هذه الدول على فرض عقوبات سياسية واقتصادية تمس جوهريا المصالح الروسية. مع ملاحظة أن التقييم الروسي الرسمي للعقوبات المفروضة حتى الآن يؤكد أنها لا تعدو كونها مجرد (استفزازات)، و(ابتزاز سياسي)، على حد قول رئيسة مجلس الشيوخ الروسي فالنتينا ماتفيينكو. غير أن الإدارة الأمريكية والحكومات الأوروبية الغربية تلوح بأنها ستتخذ بالتدريج عقوبات سياسية واقتصادية قاسية، ستقود إلى عزل روسيا سياسيا واقتصاديا، الأمر الذي تشكك موسكو في جدواه وفاعليته، وتشاطرها الرأي في ذلك دوائر أمريكية وأوروبية. المخاطر المزدوجة في تغطيتها لاتفاق انضمام شبه جزيرة القرم لروسيا الاتحادية، ركزت وسائل الإعلام الرسمية الروسية على دعوة الرئيس بوتين، في خطابه الذي ألقاه بعد التوقيع على الاتفاق، إلى (وضع حد للنظام العالمي الذي ساد بعد حل الاتحاد السوفياتي). وتحمل الدعوة في طياتها استعداد روسيا لمواجهات طويلة وشرسة مع القطبية الأحادية الأمريكية المتحالفة مع الاتحاد الأوروبي، ضمن سعي روسيا للعب دور عالمي أكبر من موقعها كدولة كبرى. هذا التصور يفترض في الحسابات الروسية أنه مهما اشتدت وتيرة الصراع سيبقى منضبطا في إطار كونه صراعا سياسيا، ولن يتطور إلى مواجهات عسكرية مع حلف (الناتو) في أي حال من الأحوال، اعتمادا على ميزان الرعب والردع المتبادل. كما يفترض أن قدرة الولاياتالمتحدة وحلفائها على استنزاف روسيا بسباق تسلح، مثلما تم استنزاف الاتحاد السوفياتي سابقا، غير ممكن نظرا للأوضاع الاقتصادية التي تمر بها الولاياتالمتحدة ودول الاتحاد الأوروبي. والحيثية الثالثة التي تفترضها روسيا في تصورها أنها عملت في السنوات القليلة الماضية على تمتين جبهتها الداخلية، بما يمنع أي لعب أمريكي وأوروبي على تناقضات الداخل الروسي شبيه بما جرى في حقبة الرئيس الأسبق بوريس يلتسين. بيد أن بعض المحللين يرون أن مثل هذه الافتراضات تنظر إلى المدى القريب، ويدفع إليها اعتقاد خاطئ بأن الدول الغربية ستجاوز بشكل أو آخر مآل قضية شبه جزيرة القرم. لكن ماذا لو اعتبرت تلك الدول أن ذلك سابقة لا يمكن السكوت عنها ويجب صدها؟ مرة أخرى تبدو روسيا مطمئنة إلى أن الولاياتالمتحدة ودول الاتحاد الأوروبي ستحسب ألف حساب قبل اتخاذ عقوبات اقتصادية صارمة بحقها، فرغم أن الشركات الأمريكية تعتبر المصدر الرئيسي للاستثمارات الأجنبية في روسيا، وأن الاتحاد الأوروبي أكبر شريك اقتصادي وتجاري لها، فإنها تستطيع أن ترد بإجراءات مماثلة تضر بالمصالح الاقتصادية الأمريكية والأوروبية. وفي تقديرات بعض الخبراء الاقتصاديين لن يلحق بروسيا ضرر كبير في المدى المنظور، لاسيما أن أوروبا الغربية لا تستطيع الاستغناء عن إمدادات الغاز الروسي. مقاربة من زاوية مختلفة يطرحها سيرغي كورييف، أستاذ الاقتصاد وعميد كلية الاقتصاد الجديد في موسكو سابقا، يوضح فيها أن (التكاليف المرتبطة بالعقوبات على التجارة والاستثمار، رغم أن نطاق العقوبات يظل غير مؤكد، تأثيرها قد يكون هائلا.. وأي انخفاض كبير في الاستثمار المباشر الأجنبي -الذي لا يجلب الأموال فحسب بل أيضا التكنولوجيا الحديثة والمهارات الإدارية- من شأنه أن يضرب النمو الاقتصادي طويل الأجل في روسيا بشدة..). بدوره، يرى البروفيسور أليكسي بورتانسكي، الأستاذ في كلية الاقتصاد العالمي والسياسة العالمية، أنه في ظل تدهور مناخ المباحثات الدولية يمكن أن يصبح من الأصعب الارتقاء بوضع روسيا، على سبيل المثال، في مجال المدفوعات على تدوير البضائع والتطويرات الأوروبية في مجال الطاقة. لذلك، وبصرف النظر عن صحة التقديرات الروسية، حول تأثير سلاح العقوبات عليها، في المدى القريب، يبقى من الصعب التنبؤ بدقة بمستوى تأثير العقوبات الأمريكية والأوروبية في المدى المتوسط والطويل، في حال فرضت عقوبات، لكنها بالتأكيد، حتى وإن كانت محدودة نسبيا، لن تكون في صالح روسيا، التي مازال الطابع الريعي سمة رئيسية من سمات اقتصادها. وفي النهاية، روسيا بحاجة للغرب اقتصاديا وليس العكس.