علّمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن البغض في الله تعالى من أوثق عُرى الإيمان، ولا شك أن كمال إيمان الملائكة بربّها يجعلهم من أشدّ خلق الله بُغضاً للعصاةِ وكُرهاً لهم، وتتجلّى هذه الكراهية في أعظم صورها عند قيامهم بلعن الكفرة وأنواعٍ من العصاة، لأن اللعن في حقيقته: الإِبعاد عن رحمة الله تعالى. ولا شكّ أن لعن الملائكةٍ لأحدٍ من الناس، أو لنوعٍ من أنواعهم، ليس كلعنِ بني آدم لبعضهم، لأن الملائكة ملأٌ سماويٌ أعلى، بلغوا الكمال التام في العبادة واليقين الراسخ ما ليس للبشر الذين جُبلوا على النقص، ولمكانتهم هذه: كان دعاؤهم باللعن لمن استحقّ اللعن أدعى للقبول عند الله تعالى، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن العبد إذا لعن شيئاً صعدت اللعنة إلى السماء فتُغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها دونها، ثم تأخذ يميناً وشمالاً، فإذا لم تجد مساغاً رجعت إلى الذي لعن، فإن كان لذلك أهلاً، وإلا رجعت إلى قائلها) رواه أبو داود، فمقتضى الحديث أن اللاعن إن كان أهلاً للعن عادتْ إليه، وإلا أصابت الملعون، وبطبيعة الحال فالملائكة ليستْ ممّن يستحقّون اللعن لعصمتهم، وهذا الأمر يفرض على من أراد النجاة وآثر السلامة في دينه، أن يتجنّب الأمور الداعية إلى لعن الملائكة. ونضع بين يدي القارئ عدداً من أصناف من تلعنهم الملائكة وتدعوا عليهم أن يطردهم الله تعالى من رحمته، وأن يُخرجهم من عفوه: الصنف الأوّل: لعن الملائكة لكاتم العلم الشرعي: دلّت النصوص الشرعيّة على استحقاق كاتم العلم الشرعي للعن الملائكة، قال الله تعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} (البقرة:159)، وهذه الآية تتضمّن وعيداً شديداً في حق من قام بإخفاء ما أمر الله به أهل العلم وأخذَ الميثاق عليه، بضرورة بثّ العلم في الناس، وعدم كتمانه أو إخفائه، كما جاء في سورة آل عمران: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه} (آل عمران: 187). وفي قوله تعالى: {ويلعنهم اللاعنون} دليلٌ على دعاء الملائكة على كاتمي العلم الشرعي، لأن لفظ: {اللاعنون} في عمومه يشمل الملائكة، لدلالة النصوص الأخرى التي سنوردها لاحقاً بأنهم ممّن يلعنون أجناساً من بني آدم، فيدخلون في هذا العموم دخولاً أوليّاً، ومما يدلّ على ذلك قول قتادة في تفسير هذه الآية: (هم الملائكة)، وقول الربيع بن أنس: (اللاعنون، من ملائكة الله والمؤمنين) وكلاهما أوردهما ابن جرير في تفسير هذه الآية. وسبحان الذي جعل الجزاء من جنس العمل، فالعالم الذي يُعلّم الناس الخير تستغفر له الخلائق حتى الحيتان في البحر، وتدعوا له بالرحمة، وفي المقابل: فإن من يكتم علماً ويُخفيه عن الناس، مخالفاً في ذلك كلّ التوجيهات الربّانية التي تنهى عن كتمانه، وتأمرُ بنشره، باعتباره الهدف الرساليّ الأعلى الذي يُخرج الناس من الظلمات إلى النور، فلذلك يستحقّ اللعنة من الجميع بما فيهم الملائكة، وهذا المعنى متّسقٌ مع قول النبي - صلى الله عليه وسلم: (من سئل عن علم علمه، ثم كتمه، أُلجم يوم القيامة بلجامٍ من نار) رواه أصحاب السنن عدا النسائي. وللشيخ السعدي كلامٌ لطيفٌ في هذا المعنى، يقول عن كاتمي العلم: (تقع عليهم اللعنة من جميع الخليقة، لسعيهم في غشّ الخلق وفساد أديانهم، وإبعادهم من رحمة الله، فَجُوزوا من جنس عملهم، كما أن معلّم الناس الخير، يصلي الله عليه وملائكته، حتى الحوت في جوف الماء، لسعيه في مصلحة الخلق، وإصلاح أديانهم، وقربهم من رحمة الله، فَجُوزِيَ من جنس عمله، فالكاتم لما أنزل الله، مضادٌّ لأمر الله، مشاقٌّ لله، يبين الله الآيات للناس ويوضّحها، وهذا يطمسها، فهذا عليه هذا الوعيد الشديد). وأوّل من يدخل في هذه الآية دخولاً أوليّاً ويستحق بموجبها لعن الملائكة: أحبار اليهود ورهبان النصارى ممّن كتموا أمر محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأنكروا البيّنات والدلائل المبثوثة في كتبهم، والتي تُبشّر برسول الهدى وتؤكّد بعثته، قال أبو العالية: (نزلت في أهل الكتاب، كتموا صفة محمد -صلى الله عليه وسلم-..يلعنهم كل شيء على صنيعهم ذلك)، وعلى الرغم من ذلك، فإن عموم الآية يشمل كلّ من اتّصف بهذه الصفة التي استوجبت اللعن، وهي: كتمان العلم، وترك بيان ما أوجب الله بيانه، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما تقرر عند علماء الأصول.