تضمن القرآن الكريم، كلام الله سبحانه وتعالى- من الأخبار والفوائد واللطائف ما يعز وجوده في كتاب سماوي أو أرضي، ولا شك في ذلك، فهو خاتم الكتب وهو كتاب الإنسانية، وهو الكتاب الخالد، وهو الكتاب الذي تكفل الله بحفظه بخلاف غيره من الكتب، قال تعالى "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"، ولا شك أن القرآن الكريم كتاب لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق من كثرة الرد، وقارئه يكتشف من معانيه وفوائده مع كل مرة يقرأه فيها ما لم يكتشفه في سابقتها، وهذا أيضاً مما فارق به غيره من الكتب، وسعياً لاكتشاف مزيد من فوائد ولطائف هذا الكتاب، نقف مع آية قرآنية، حذرت من كتمان العلم وتوعّدت من يفعل ذلك باللعن من الله ومن الخلق أجمعين. يقول الله سبحانه وتعالى عن الذين يكتمون العلم "إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون"، فهذه الآية نزلت في حق اليهود في عهد التنزيل، ولو تأملنا في ألفاظها وأجلنا النظر في تركيبها، لوجدنا فيها جملة من اللطائف والفوائد، يمكن إبرازها في النقاط التالية: - بدأت الآية بحرف التوكيد "إن"، وذلك دلالة على الاهتمام بهذا الخبر والتنبيه على خطره والعاقبة السيئة التي تنال فاعله. - عبّرت الآية بالفعل المضارع "يكتمون" للدلالة على أن كتم البينات والهدى أمر مستمر، ولو وقع التعبير بلفظ الماضي لتوهّم السامع أن المعنيَّ به قوم مضوا، مع أن المقصود إقامة الحجة على الحاضرين، ويُعلم حكم الماضين واللاحقين بدلالة الآية، لمساواتهم في ذلك، وهذا يعني أن يهود اليوم والغد مشمولون بهذه الآية، لأن صفات اليهود لا تتغير، والتعبير بالفعل المضارع يدل على تجدد الكتمان منهم. - قوله تعالى "أولئك يلعنهم الله"، جملة خبرية ل"إن"، وهذه الجملة تشتمل على جملتين؛ أولهما فعلية، وهي "يلعنهم الله"، والثانية إسمية، وهي "أولئك يلعنهم الله" والتعبير بالجملتين ذو دلالة مزودجة؛ فهو بالجملة الاسمية يدل على ثبوت لعن الله لهم ودوامه، وبالجملة الفعلية يدل على تجدد لعن الله لهم كلما تجدد كتمانهم، فهم يكتمون والله يلعنهم، أي يطردهم من رحمته. - قوله تعالى "للناس"، اللام لام التعليل، أي: بيناه في الكتاب لأجل الناس -كل الناس- وأردنا إعلانه وإشاعته بينهم، وفي هذا زيادة تشنيع على كاتم البينات والهدى، من جهة كونه كتمان للحق وحرمان منه، فهو اعتداء على مستحقه الذي أُنزل من أجله. - قوله سبحانه "أولئك"، إشارة إلى "الذين يكتمون"، وجاء اسم الإشارة وسطاً بين اسم "إنَّ" وخبرها، للتنبيه على أن الحكم الوارد بعد ذلك قد صاروا جديرين به، لأجل كتمانهم البينات والهدى، كما أفادت الإشارة التنبيه على أن الكتمان سبب لعنهم، واختير اسم الإشارة البعيد، دلالة على بعدهم بالإفساد وإفراطهم فيه، وأيضاً فإن اسم الإشارة "أولئك" لا يكون إلا للمشاهَد، ومع ذلك أشار به إلى صفاتهم "كتمان البينات والهدى"، وهي لا تشاهَد، وذلك لأن وصفهم بتلك الصفات جعلهم كالمشاهَدين للسامع. - قوله تعالى "يلعنهم الله"، اختير الفعل المضارع للدلالة على التجدد والاستمرار، مع العلم بأنه سبحانه لعنهم أيضاً فيما مضى، إذ كل سامع يعلم أنه لا وجه لتخصيص لعنهم بالزمن المستقبل، وكذلك القول في قوله تعالى "ويلعنهم اللاعنون". - كرر الفعل "يلعنهم" في قوله "ويلعنهم اللاعنون"، مع إمكان أن يقال "أولئك يلعنهم الله واللاعنون"، لاختلاف معنى اللعنين؛ فإن اللعن من الله: الطرد والإبعاد عن الرحمة، واللعن من البشر: الدعاء على الملعون. - قوله سبحانه "اللاعنون" وَصْف معرف بالألف واللام، وهو يُشعر أن ثمة قوماً شُغْلُهم الشاغل هو اللعن، وليس الأمر كذلك، فما هناك من أحد متخصص باللعن، إنما المراد هنا الذين يمكن أن يصدر منهم اللعن، كالملائكة والصالحين الذين ينكرون المنكر ويغضبون لله تعالى ويطلعون على كتمان من يكتم آيات الله، فهم يلعنونهم لذلك، فكأنهم اختصوا بذلك. - جاء في الحديث "وإن العالِم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، حتى الحيتان في الماء"، وهذا الاستغفار إنما يحصل إذا بيَّن العالِم العلم للناس، فأما إذا كتمه فيلعنه كل شيء، فاللعن عند الكتمان جزاء، وهو مقابل للاستغفار عند البيان. العالِم كفّة في ميزان الدعوة إلى الله تدل هذه الآية على أن العالِم يحرم عليه أن يكتم من علمه ما فيه هُدى للناس، لأن كتم الهدى إيقاع في الضلالة، سواء في ذلك العلم الذي بلغ إليه بطريق الخبر الصحيح أم العلم الذي يحصل عن نظر، كالاجتهادات إذا بلغت مبلغ غلبة الظن، بأن كان فيها خير للمسلمين، وتدل الآية بمفهومها على أن العالِم يحرم عليه أن يبث في الناس ما يوقعهم في أوهام أو يلقي إليهم ما لا يحسنون فهمه وإدراكه، ومما هو جدير بالذكر أن أهل العلم اتفقوا على جواز لعن الكفار من حيث الجملة، واستدلوا لذلك بقوله تعالى "فلعنة الله على الكافرين"، أما لعن كافر بعينه، فقد ذهب جماعة من العلماء إلى عدم جواز ذلك، لأننا لا نعلم بما يختم الله له.