بقلم: الدكتور سعيد الشهابي في عالم يضطرب تحت قعقعة الإرهاب فإن من المنطقي أن تبادر الدول لمحاصرة الظاهرة سواء بالإجراءات الأمنية المشددة أم بث ثقافة التصدي للعنف غير المبرر، أم بتشديد العقوبات والإجراءات القضائية ضد من يمارس الإرهاب. هذا أمر منطقي لا يستطيع عاقل الاعتراض عليه. وقد كانت الحرب ضد الإرهاب التي تصدرتها الولاياتالمتحدةالأمريكية قبل أكثر من عقد من الزمن قرارا أملته الظروف، وكان على المعنيين به البحث عن مصاديق حقيقية للإرهاب المستهدف والالتزام بالقانون في التصدي لمريديه ومروجيه. ولكن المشكلة تكمن في تسييس الظاهرة أو تشويش مفهومها أو الخلط في استكشاف مصاديقها، أو المساومة على مكافحتها بغض الطرف عن مموليها وداعميها ومروجي الفكر الذي يشجعها، أو تمويل القائمين بها. فهذه الاعتبارات تؤدي إلى تمييع تعريف الظاهرة وبالتالي، فبدلا من القضاء عليها من خلال توافق دولي حول تعريفاته ونظرته لها، وجد بعض مروجيها فرصة ليس من الإفلات من العقاب فحسب، بل التأثير السلبي على التحالف الذي أعلن حربه عليها، وتشويش مفاهيمها والهزيمة أمام الجهات التي تستخدم الإرهاب سلاحا من أجل بقاء أنظمة حكمها أو تسجيل نقاط ضد خصومها. إنها مشكلة متداخلة تزداد تعقيدا مع بروز ظواهر غير مشجعة من الدول الغربية الكبرى التي يفترض أنها قد حسمت أمرها وقررت القضاء على ظاهرة الإرهاب الاعمى الذي تنفذه مجموعات سرية وعلنية وتموله دول معروفة. وإذا كان هناك ما يشبه التوافق على الظاهرة وتعريفها (وإن بشكل فضفاض) في السنوات العشر الأولى التي أعقبت حوادث 11 سبتمبر الإرهابية، فإن ظاهرة (الربيع العربي) قد فرضت واقعا جديدا على العالم يخشى أن يعمق ظاهرة الإرهاب الحقيقي ويزور الحقائق المرتبطة بها، ويستهدف القوى التي كانت وما تزال ضحية الإرهاب، سواء التي تمارسه المجموعات المتطرفة، أم الأنظمة الاستبدادية التي ما برحت تمارس (إرهاب الدولة). فما يتردد الآن في بعض العواصم الغربية عن استعداد لمسايرة قوى الاستبداد والديكتاتورية في مشروعها الانقلابي ضد التعريفات الدولية المتعارف عليها لظاهرة العنف السياسي الأعمى، يثير قلق الكثيرين، ويهدد بانتشار الإرهاب الحقيقي بسبب تشوش المفاهيم وتبدل الأولويات. وهكذا تحولت الحرب ضد الإرهاب إلى صراع إرادات بين رواد التغيير ودعاة الديمقراطية والمدافعين عن حقوق الإنسان من جهة، وأنظمة الاستبداد التي ما برحت تسعى لفرض أجندتها على الآخرين، مستغلة المال النفطي الوفير من جهة ثانية، والتلكؤ الغربي في التصدي للإرهاب أو ترويج الديمقراطية أو الدفاع عن حقوق الإنسان من جهة ثالثة. أنها واحدة من الحقب التاريخية التي تتطلب جهودا دولية مشتركة لإعادة قطار الحرب ضد الإرهاب إلى سكته الصحيحة والضرب بيد من حديد على أيدي قوى الاستبداد التي تروج الإرهاب الحقيقي. في الأسبوع الماضي أعلنت الحكومة البريطانية أنها ستحقق في وجود جماعة الإخوان المسلمين في بريطانيا وما إذا كانت مرتبطة بالإرهاب، وذلك بعد أن أعلنت السعودية أن الجماعة (منظمة إرهابية). وهنا يتحول السجال حول هذا المصطلح إلى أزمة قيمية وسياسية. وسواء بادرت السلطات لذلك التحقيق أم اكتفت بالإعلان المذكور، فإن إطلاق التصريح نفسه يعني الكثير، ويحمل في طياته أبعادا غير مريحة ترتبط بالسياسة البريطانية. فالجماعة المذكورة ليست وليدة اليوم، بل لها تاريخ تجاوز الثمانين عاما، ومرت بحقب عديدة، ولم يسجل عليها جنوحها للعنف أو الإرهاب. وحتى الحكومات المصرية المتعاقبة اكتفت بوصفها (منظمة غير مشروعة)، أي غير مرخصة، ولم تصفها بالإرهاب إلا بعد الانقلاب العسكري ضد رئيسها المنتخب. والمشكلة الأساسية هنا ليست في تبني العنف أو الإرهاب، بل في قدرة الحركة على لملمة شملها بعد كل محنة مرت بها واستعادة موقعها الاجتماعي والسياسي. وربما المشكلة الأخطر، في نظر مناوئيها، فوزها بانتخابات الرئاسة المصرية في المرحلة التي أعقبت سقوط حسني مبارك. وحيث أن الحركة تمثل عمق ما اصطلح الغربيون على تسميته (الإسلام السياسي) فإن هذا الفوز كان يتضمن تحولا جوهريا في الهوية الإيديولوجية لنظام الحكم في مصر واحتمال توسع ذلك ليشمل أغلب أقطار العالم العربي، نظرا لتواجد الجماعات الإخوانية. الإخوان لم يتهموا يوما بالإرهاب، في ما عدا ما نسب لهم في 1954 بعد حادثة المنشية التي اتهموا فيها بإطلاق النار على الرئيس الأسبق، جمال عبد الناصر. وبرغم عدم ثبوت التهمة فإن عددا من قياداتهم كان مصيره الإعدام. ولم يسجل التاريخ أن رئيسا أو وزيرا ليس في مصر فحسب، بل في العالم العربي، قتل على أيدي عناصر من جماعة الإخوان. وقد دفعت الجماعة ثمنا كبيرا لسياساتها الهادئة البعيدة عن العنف، فانشقت منها في السبعينات عناصر أسست الجماعات الإسلامية، وجماعة التكفير والهجرة. وربما انخرط بعض أفرادها المنشقين في تنظيم القاعدة لاحقا. أما الحركة نفسها فبقيت بعيدة عن ظاهرة العنف، وكانت في أغلب الأحيان ضحية للعنف السلطوي. لماذا استهداف الإخوان في هذا الوقت بتهمة الإرهاب برغم استحالة اثبات ذلك؟ عدد من العوامل ساهم في هذا التوجه. أولها أن صعود _الإسلام السياسي_ في أكبر دولة عربية كان مفاجأة غير متوقعة من قبل الغربيين الذين اعتقدوا في البداية أن الثورات ستأتي بعناصر ليبرالية عبر صناديق الاقتراع. فكان فوز الإخوان زلزالا سياسيا سيساهم، فيما لو أحسنوا إدارة الدولة، في تعميق ظاهرة الإسلام السياسي الذي انطلق من إيران قبل ثلث قرن تقريبا. ثانيها: أن الإخوان يمثلون ظاهرة دينية تتسم بالاعتدال واستقطبت أجيالا متعاقبة لمشروعها الإيديولوجي المؤسس على شعار (الإسلام هو الحل). وهذا يعني توسع دائرة الإسلام السياسي ليأخذ طريقه إلى بلدان عربية عديدة، خصوصا بعد فوز حركة (النهضة) في تونس وحزب (العدالة والتنمية) في المغرب. وبهذا تتعمق ظاهرة الحكم الإسلامي في العالم العربي الذي يتشكل في أغلبه من المسلمين السنة. ثالثها: أن البعد الديني للجماعة يعني أنها ليست منافسة لما سبقها من أنظمة رفعت شعار الإسلام كالنظام السعودي فحسب، بل أنها تمثل بديلا إسلاميا أقوى، يستطيع استقطاب الشباب ويقضي على الثنائية التي تميزت بها التجارب السابقة التي حالفت بين التوجهات السياسية للعائلات الحاكمة والتوجهات الدينية لدى مجموعات سلفية تواصل وجودها على مدى عقود وأصبح لها نفوذ بين قبائل الصحراء العربية. ولهذا شعرت المملكة العربية السعودية أن صعود الإخوان إلى حكم مصر تهديد كبير للنظام السياسي في الجزيرة العربية الذي مضى على وجوده ما يقرب من قرن. رابعها: أن القرار السعودي بتصفية حكم الإخوان وإسقاطهم من الحكم بدعم العسكر، ثم إعلان الرياض عن اعتبار الإخوان _جماعة إرهابية_ وجد أصداء له لدى الغربيين. ويعتقد أن السعودية ضغطت على الغرب لمساعدتها على تصفية جماعة الإخوان الذين اعتقل منهم الآلاف في مصر وغيرها. وكان انقلاب العسكر ضدهم دمويا بدون سابقة. فقد قتل منهم الآلاف في حادثتي مسجد رابعة العدوية وساحة النهضة، واعتقل أكثر من عشرين ألفا من كوادرهم. الأمر الواضح أن الهجمة الأمنية الشرسة على جماعة الإخوان من قبل عسكر مصر لم تكن وليدة الساعة بل تمتد بجذورها إلى ما قبل سقوط حسني مبارك. ويكفي أن كوادر الجماعة حوكمت قبيل الثورة أمام محاكم عسكرية وصدرت بحقها أحكام قاسية. وحين قامت الثورة تمكن أغلب هؤلاء من الهرب، ومن بينهم الرئيس محمد مرسي الذي انقلب العسكريون عليه. خامسها: أن الغربيين متحسسون جدا من المشروع الإسلامي الذي يمثله الإخوان المسلمون باعتباره موازيا لمشروعهم الليبرالي الرأسمالي، ويرون في صعود الإسلاميين تحديا لنفوذهم في المنطقة من جهة وإخلالا بالتوازن السياسي لغير صالح الكيان الإسرائيلي من جهة اخرى. ولذلك، فبرغم ما يقال عن دعم أمريكي للاخوان، وقف الغربيون مع الانقلاب العسكري من الناحية العملية، وربما أطلق بعضهم عبارات (التأسف) و(القلق) تجاه التغيير السياسي عن طريق الانقلاب العسكري. سادسا: أن الغربيين حسموا موقفهم إزاء التغيير الديمقراطي في الشرق الأوسط بعد أن اتضح لهم أن نتائجه ستكون لصالح الإسلام السياسي الذي يمثل الإخوان أهم ركائزه في المنطقة. ولتبرير ذلك الموقف المناقض للشعارات التي طالما رفعوها بترويج الديمقراطية وحقوق الإنسان، أصبحوا يتحدثون عن _الإرهاب_ برغم أن الصاعدين إلى الحكم هم ضحايا الإرهاب والاستبداد. بعد هذا كله، ما الذي يمكن قوله إزاء مقولات العنف السياسي؟ هناك حقائق عديدة يجب أخذها بعين الاعتبار سواء من قبل الإسلاميين أم الغربيين من ذوي العقول المنفتحة والداعين للحرية والديمقراطية. أولها: أن الحركات الإسلامية التقليدية المتمثلة في بعدها العربي بالإخوان المسلمين لا يؤمنون بالإرهاب أو العنف من حيث المبدأ. والأرقام المتوفرة تؤكد أنهم كانوا ضحايا إرهاب الدولة التي استخدمت أبشع الوسائل لفض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة. ثانيها: أن هناك أطرافا تؤمن بالعنف السياسي ويمارسه بعض فصائلها، وقد تحالفت مع نظام العسكر في مصر، ولم يجد العسكريون غضاضة من التحالف معهم ليستمدوا منهم _الشرعية الدينية_. وتجدر الإشارة إلى أن التيار السلفي المدعوم من السعودية لعب ثلاثة أدوار: تحالف مع الإخوان في بداية الأمر، ثم مع العسكر للانقلاب على الإخوان، ثم مارس العنف ليلقى باللوم على الإخوان. ثالثا: أن ربط بعض فصائل _الإسلام السياسي_ بالإرهاب يمثل أحد أساليب قوى الثورة المضادة التي تتغاضى عن (وربما تشجع سرا) مجموعات _الإسلام الجهادي_ أي التي تمارس العنف والإرهاب. بينما مضى على وجود مجموعات الإسلام السياسي في الغرب قرابة نصف قرن، ولم ترتكب يوما أعمال عنف أو إرهاب. مع ذلك تعلن الحكومة البريطانية عزمها على ملاحقتها وربما مضايقتها تحت طائلة قوانين الإرهاب. إنه موقف مقلق جدا لأنه يقلص مساحة الحرية المتاحة للعمل السياسي السلمي، ويعتبر مكافأة لأنظمة القمع التي تلاحق طلاب الحرية أينما حلوا. جاء العلان البريطاني في غضون 48 ساعة من لقاء الرئيس الأمريكي، باراك أوباما مع ملك السعودية في الرياض. ويتوقع أن السعوديين وراء التحريض ضد جماعة الإخوان في بريطانيا وأوروبا، لإرضاء زعماء مصر والسعودية. وثمة خشية أن تتم ملاحقة المعارضين العرب الذين يسعون، بالطرق السلمية، لوضع نهاية للاستبداد الذي هيمن على المنطقة عقودا. ما هو الإرهاب ومن هو الإرهابي؟ الأنظمة القمعية لديها تعريف للإرهاب مختلف عما هو معمول به في العالم. فمن يعارض الاستبداد خصوصا في بعض دول مجلس التعاون يصنف ضمن _الإرهابيين_ ويتعرض لأبشع أصناف التنكيل. فالسلطات البحرينية مثلا سحبت جنسيات 31 مواطنا بدعوى أنهم _إرهابيون_، ومع أن نصفهم تقريبا يعيش داخل البلاد لم يتم اعتقالهم. فما معنى ذلك؟ ولقد لوحظ في السنوات الأخيرة أن الأنظمة أصبحت تستخدم لغة المعارضة ومصطلحاتها ولكن بدون مضامينها الحقيقية. فهي تتحدث عن الديمقراطية والانتخابات البرلمانية وحقوق الإنسان، ولكن من وجهة نظرها التي لا تتطابق مع المعايير الدولية. أن المجتمع العربي يعاني اليوم من إرهاب الدولة، وهو من أبشع أشكال الإرهاب بحق الوطن والمواطنين، وكذلك من مجموعات التطرف والإرهاب، ولكن المستهدف هم أصحاب مشروع الإسلام السياسي الذي أصبح يتحدى الاستبداد في عقر داره ويوفر بديلا حضاريا قادرا على إدارة الدولة الحديثة بعيدا عن التزمت أو التطرف أو الإرهاب. هذا المشروع يعتبر تحديا حقيقيا لأنظمة الحكم الجاثية على شعوب الأمة بدون رحمة. ولذلك يستهدف بشكل مباشر، ويتم تحريض الدول الغربية ضد وجوده المشروع في العواصم الغربية، ويستهدف بالإعلام لتشويه الصورة وتبرير اضطهاده. مطلوب من هذه الدول إعادة النظر في مواقفها لكي تصل إلى نتيجة منطقية بأن مصلحة العالم اليوم ومنطقة الشرق الأوسط بشكل خاص تقتضي التخلص من الاستبداد والديكتاتورية وإقامة أنظمة حكم مؤسسة على حكم القانون، تختارها شعوبها وتمارس دورها وفقا لدساتير مكتوبة ومقررة من المواطنين في استفتاء مفتوح. أما إفراغ المصطلحات من مضامينها واستهداف ذوي الدعوات السلمية بدعاوى الإرهاب، فيجب أن ترفض تماما. العالم يعاني من إرهاب حقيقي مصدره أنظمة الاستبداد والمجموعات المسلحة التي تدعمها. كما يساهم الاحتلال والهيمنة الأجنبية في ترويج ظاهرة الإرهاب والعنف لتوفير مبررات لاستهداف المعارضين وعشاق الحرية والمطالبين بالديمقراطية. أنه انقلاب على المفاهيم والقيم والأخلاق، يستدعي المقاومة والتصدي لمنع سقوط أمتنا في هاوية الظلم ومستنقع الديكتاتورية والجريمة الرسمية المنظمة.