نفوس خيّرة تتطوع لإفطارهم عبر الشوارع أصبح التشرد في المجتمع الجزائري مظهرا من مظاهر الحياة اليومية للمواطنين، فلا يمكن أن يخلو حي أو شارع من هاته الفئة من الناس، خصوصا بعد أن أصبحت الجزائر منطقة عبور للعديد من الجنسيات الإفريقية الفارة من بلادها لأسباب أمنية وأخرى اجتماعية، وبحلول شهر رمضان نجد كل هؤلاء المشردين يبحثون عن لقمة إفطار طيبة تسد جوعهم بعد أزيد من 16 ساعة من الصيام كغيرهم من الصائمين الذي يعيشون حياة كريمة في منازل تأويهم وسط عائلاتهم. عتيقة مغوفل (عاونوني يا خاوتي)، (فرحني الله يفرحك) (أعطيني بش نشري خبزة لأولادي)، بالإضافة إلى العبارة الشهيرة التي تهز بدن كل العازبات (الله يزوجك أختي)، هي العبارات التي يرددها المتشردون للمارة حتى يصلوا بها إلى جيوب الناس وينالوا قطع 10أو 20دج، علها تكفيهم لسد حاجاتهم، هذا في سائر الأيام، أما خلال شهر رمضان فتتغير العبارات والألفاظ المستعملة إلى (صح رمضانك حسنة لله)، (ربي يتقبل منك الصيام والدعاوي إن شاء الله)، (عاونوني باش نشري لقمة الفطور)، ففي كل موسم يتغنى هؤلاء المتشردون والمتسولون بشعارات توصلهم إلى مبتغياتهم، لكن المحير في الأمر عندما يرفع أذان المغرب ليفطر الصائمون أين يفطر هؤلاء؟ ومن يطعمهم؟ قفة مليئة بكل أنواع المأكولات تصله يوميا الإجابة على سؤالنا تطلبت منا التقرب من هؤلاء وتبادل بعض أطراف الحديث معهم، أول من التقيناه وتكلمنا معه كان عمي عمر صاحب 69 ربيعا، يعمل كحارس ليلي بأحد المآرب بحي بولوغين، وهو في الأصل ينحدر من ولاية البويرة، لكن الخبزة جرته لأن يفترق عن زوجته وأولاده خلال الشهر الفضيل، فهو لا يذهب إلى بيته إلا مرة في الشهر أو يتجاوز المدة أحيانا، بالإضافة إلى هذا فلا أقارب له بالعاصمة يفطر عندهم خلال الشهر الفضيل، (لكن الجزائريين كرماء وقلبهم كبير) على حد تعبير عمي عمر، فسكان الحي لم يتركوه يفطر على وجبات الجبن الباردة، بل تجندت بعض العائلات لضمان إفطاره يوميا، فكل يوم يطرق باب المرأب أحد الشباب وبيده قفة فيها كل ما تشتهيه الأنفس من البوراك، الشربة، السلطة والطبق الرئيسي بالإضافة إلى لحم الحلو الذي لا يمكن أن يستغني عنه أي جزائري في رمضان، كما أن قفة عمي عمر لا تخلو أبدا من أحد أنواع الخبز التي تتفن في إعداده الكثير من الجزائريات خلال شهر رمضان. وبعد وجبة الإفطار يقصد عمي عمر مقهى الحي وهناك لا تدخل يده إلى جيبه أبدا، فكل واحد من زبائن المقهى يتسارع مع غيره من أجل أن يدفع له ثمن فنجان القهوة وقطعة قلب اللوز الذي يحبه عمي عمر كثيرا. تقضي رمضان مع أبنائها الثلاثة في الشارع على ما يبدو أن هناك الكثير من الناس مثل عمي عمر الذين حرموا من لقمة إفطار في البيت العائلي، فالسيدة رشيدة صاحبة 44 ربيعا تعاني الأمرين، فهي أم لطفلين أحمد 13سنة وزينب 10 سنوات هذه العائلة دون مأوى منذ 8 سنوات والتي التقيناها بالضبط بشارع عسلة حسين بقلب عاصمة الجزائر، منذ أن طلقها زوجها ورماها في الشارع هي وأبنائها دون أية رحمة وشفقة، فقد اختار الزوجة الجديدة والصغيرة ورمى القديمة مع أن المثل الشعبي يقول (الجديد حبو والقديم ما تفرط فيه)، فبعد أن طلقها عادت إلى منزل والدها رفقة طفليها، فلم تلق الترحيب من زوجات إخوتها اللائي رفضن إقامتها معهن مع أن لها الحق في ذلك على اعتبار أن المنزل ملك للعائلة الكبيرة، ما دفع بها للخروج إلى الشارع والمبيت في العراء هي وأبنائها، كم من رمضان حل عليها وهي في الشارع تفطر كل يوم في مطاعم الرحمة المتواجدة في كل بلدية وتارة أخرى في المستشفى أين تبيت هناك حتى تقي نفسها من خطورة الشارع، فهو على الأقل مكان تشعر فيه بنوع من الاطمئنان، وأحيانا يأتيها ذوو البر والإحسان بوجبة الفطور إلى المكان الذي تكون فيه، فقد حدثتنا رشيدة قائلة (أنا لم يساعفني الحظ في أن يكون لي بيت مثل كل البشر، أعيش فيه حياة كريمة لكن أهل البر لم يتركوني أبدا ولم يحسسوني بالحاجة خلال الشهر الفضيل فكل يوم أفطر فطورا مميزا عن سابقه فكرم الجزائريين جعلهم يتقاسمون حتى حبة التمر مع الجياع في الشوارع). اللاجئون الأجانب لهم نصيب من مظاهر التكافل وكما سبق لنا وأن ذكرنا أن البؤساء الجزائريين أصبحوا يتقاسمون الشوارع اليوم مع غيرهم من المتشردين الأجانب، فالمار بشارع العافية ببلدية القبة يلمح وجود أم رفقة طفلين يفترشون الكارطون من جنسية مالية، فالناظر إليهم يلمح بنيتهم الضعيفة التي تآكلت بعد مشقة الهروب من الوطن الأم، إلا أن هذه العائلة مسلمة تؤدي جميع الطقوس الإسلامية، فالأم محجبة مثلنا بالإضافة إلى هذا فهم يؤدون فريضة الصيام، لذلك تقربنا من هاته العائلة رويدا رويدا وسألناهم أين يفطرون حين يحين وقت الإفطار (فأجابتنا الأم مبتسمة وبالعربية المكسرة في مطعم الرحمة)، عدنا وسألناها مرة أخرى ماذا تأكلون هناك فقالت مبتسمة دوما (الشربة ...البوراك ...الجواز...يعطونا زلابية) وحسبما ما روته لنا الرعية المالية التي لم تتحدث إلينا كثيرا فإن وجبات الإفطار التي تقدم في مطعم الرحمة نالت إعجابها فالشربة الجزائرية ليس لها مثيل، كما أبدت لنا إعجابها الشديد بأوجه التكافل والتآزر التي يبديها الجزائريون على وجه الخصوص خلال الشهر الفضيل.