سيشتري قارورة مياه معدنية بعشرين دينارا، ويعيد بيعها بخمسة وعشرين، وسيفعل نفس الشيء مع الجرائد، سيضيف إلى ثمنها خمسة دنانير، وكذلك الحلويات والمكسرات والمناديل الورقية. هكذا فكر عمر قبل أن يباشر مشروعه الصغير صغر سنه، فهو بالكاد بلغ العاشرة من العمر، لكن قساوة الحياة، جعلته لا يعيش طفولته مثل غيره، وهو حال الكثير من الأطفال الذين نراهم في الحافلات والقطارات وكل وسائل النقل ومحطاتها، يحملون بين أيديهم أشياء صغيرة، ويحتاج إليها المواطن بشكل شبه يومي، إذ أنهم يشترونها بسعرها الأصلي أي الذي تباع به في المحلات التجارية، ويعيدون بيعها بعد أن يضيفوا إلى ذلك السعر بعض الدنانير، وحتى المواطنون يلاحظون الفرق، لكنهم عادة ما يشترون بصدر رحب، ذلك أنهم يعون جيدا معاناة هؤلاء الأطفال، وحاجتهم الماسة إلى كل دينار يدخل جيوبهم، فلا يتذمرون من ذلك، بل تجدهم يمنحون هؤلاء الأطفال دنانير إضافية، حتى يخففوا عنهم شيئا من بؤسهم وشقائهم. ولقد كنا في القطار عندما صادفتنا حالة عمر، وهو الذي كان يتنقل بين المسافرين ويعرض عليهم سلعته، جرائد وقارورات مياه معدنية، وحلويات ومكسرات، وغيرها من الأشياء التي يشتريها المسافرون أثناء رحلاتهم التي قد تطول، وعندما تحدثنا إليه، قال انه باشر في هذا العمل منذ أشهر، وهو الذي يحتاج إلى كل دينار لأنه ينتمي إلى عائلة فقيرة، بالكاد توفر ثمن طعامها اليومي، وبعد أن اشتغل في المحلات والورشات والمصانع، فكر في أن تلك الأجرة الصغيرة لا ولن تكفيه لإعالة أسرته، لذا صار يعمل في وسائل النقل بعد أن وفر مبلغا ماليات بسيطا مكنه من أن يباشر في مشروعه الصغير. سفيان، 12 سنة، هو الآخر رأيناه يبيع جرائد ومناديل، وكان ينادي بأعلى صوته المسافرين ويدعوهم إلى أن يشتروا منه، ولكنه لم يكن لوحده، بل كان رفقة فتاة صغيرة، أدركنا بعد الحديث معه، أنها أخته، وأنها تساعده في العمل، لكنه أكد لنا انه لا يسمح لها بفعل ذلك، إلا بعد أن تنتهي من دراستها او في العطل الأسبوعية، او الصيف، لأنه لا يريد لها أن تلقى نفس مصيره، وهو الذي توقف عن الدراسة في سن مبكرة واتجه إلى العمل. أما المواطنون فقد ابدوا لنا استياءهم، ليس من الأطفال، بل من تدهور المعيشة، واضطرار أطفال لم يبلغوا حتى سن المراهقة إلى العمل، فقد قال لنا عادل، 33 سنة: "في الحقيقة من المؤسف أن ترى حالات مثل هذه في بلادنا الغنية المليئة بالثروات، وعادة ما امنح هؤلاء الأطفال فوق ما يطلبونه مني عندما اخذ منهم جريدة، لأنهم يستحقون أكثر، وهم الذين سلبت منهم براءتهم، ربما إلى الأبد". أما سعاد، 48 سنة، فقد أشفقت هي الأخرى على حالهم، وقالت لنا بمنتهى الأسى: "لو كان جات الدنيا دنيا لو كان راهم يقراو"، وأضافت دون أن تتغير نبرة صوتها: "لقد كبر هؤلاء الأطفال قبل الوقت، وهو أمر محزن للغاية، وكيف نطمع في ان يكونوا لبلادنا مستقبل وهم الذين لم يروا من الدنيا إلاّ وجهها المظلم".