بقلم: مصطفى أمزير تُعدُّ مبادرة (النقاط الأربع عشرة) التي أعلن عنها الرئيس الأمريكي (ويلسون) عقب نهاية الحرب العالمية الأولى سنة 1918م الوثيقة الرسمية الأولى التي كشفت عن إستراتيجية الولاياتالمتحدة تجاه العراق والقائمة على فكرة تفكيك جغرافية هذا البلد العظيم بتاريخه وموارده ورمزيته الحضارية إلى ثلاثة كيانات مذهبية وعرقية متباينة، فقد شدد (ويلسون) في إحدى النقاط على ما أسماه بضرورة اقتناص القوميات غير التركية فرصة الأوضاع العالمية المواتية لبناء أوطان مستقلة لها. وحرضت أمريكا الأكراد وأقنعتهم بفرصة الظرف العالمي والإقليمي المناسب، لكن ما أن انتفض الأكراد حتى انتقم منهم مصطفى أتاتورك أبشع انتقام... ليتوارى مشروع الانفصال هنيهة عن المنطقة وإن نجح الأمريكان في زرع فكرته داخل أدمغة الأكراد الذين أصبح لديهم مع القمع التركي مسوغ نفسي وأيديولوجي وتاريخي يدفعهم أكثر نحو المطالبة بالاستقلال. أمريكا هنا.. البارحة واليوم وغدا عادت أمريكا أيام استيلاء عبد الكريم قاسم على الحكم في العراق سنة 1958م إلى طرح قضية الأكراد مجددا من خلال مشروع (دولة العراق الاتحادية) والذي يوصي بتقسيم العراق إلى ثلاثة أقاليم: سنة في الوسط، وشيعة في الجنوب، وأكراد في الشمال،ولم تتراجع أمريكا منذئذ عن مخططها هذا. فمع انهيار نظام البعث الوحدوي عقب سقوط بغداد اتجهت كل طاقات أمريكا الاستخباراتية في الخليج نحو إكمال الأجزاء المتبقية من خطة تقسيم العراق بمساعدة متحفزة من الدول الإقليمية المؤثرة التي عانت تاريخيا من العراق الموحد، فقد بدا التقسيم ملائما للتطلعات الأيديولوجية والمذهبية للنظام الإيراني الذي يحلم باقتطاع الجنوب الشيعي وجعله، على الطريقة الساسانية القديمة تابعا له كخطوة أولى نحو التمدد المذهبي مستقبلا في الخليج. فيما التقسيم يروق كثيرا مزاج النظام السعودي لإشباع جموحه القبلي نحو الزعامة (الأبوية) على الأنظمة الخليجية الجزيئية الضعيفة. وفي سبيل تحقيق هذا الطموح المشترك نسجت غرفة العمليات الموحدة تفاصيل حرب مذهبية طاحنة تدفع المواطن العراقي البسيط في النهاية إلى المناداة ذاتيا بالتقسيم لحل معاناته من كوارث الطائفية والحروب المذهبية المفتعلة. بدأت الخطة بدستور بريمن الطائفي الذي فتح المجال واسعا للاستفراد (الشيعي) بالموارد والمناصب السياسية والعسكرية المؤثرة، وفي نية (الصيادين) طبعا دفع (السنة) إلى الانتفاض بعد أن يكونوا قد خنقوا أوعيتهم الرئوية احتقارا وذلا وإقصاء مبرمجا، ولحظة البحث عن متنفس للحياة والكرامة تأتي الخطة لتستكمل حبكتها عبر وضع شرك طائفي (شهي) على بوابة المخرج الوحيدة، بعد أن يكونوا قد دُفعوا نحوه دفعا، يتبنى مطالب السنة ويصوغها في قالب أيديولوجي سلفي مشبع بعطن التاريخ ... تُهيّأ لداعش مسالك البطولة في درب الانتقام السني من الشيعة، وتوكل له مهام إتمام ما بقي من لوازم الاحتقان من أجل مذبحة مذهبية تؤول إلى التقسيم الحتمي للعراق. أكيد من عايش ظاهرة طالبان في أفغانستان يلحظ الشبه الشديد بين ظروف نشأة هذه الحركة ومسار تنظيم داعش. يبدأ الشبه من الخلفية الأيديولوجية المحركة للتنظيمين فكلا الحركتين قامت من أجل هدف جهادي واضح تحت عنوان معلن هو (محاربة الصليبيين ومن والاهم على أرض الإسلام) ولعل هذا الشعار العام هو الذي سهل على المخابرات الأمريكية ركوب موجة التنظيمين للوصول إلى تنفيذ مخططاتها بأقل الخسائر الممكنة. فلا أحد، ربما، يشك في ارتفاع منسوب الإخلاص لدى غالبية مقاتلي التنظيمين الذين دفعتهم الغيرة على دماء المسلمين المهدورة إلى ترك أعمالهم ووظائفهم المريحة، بل إن بينهم من هجر أبناءه وأحباءه تلبية لنداء الجهاد. فيما ألهب إعلان داعش قيام دولة الخلافة على أرض العراق مخيلة قطاع واسع من الشباب العربي المتدين المتشوق إلى عيش تجربة الإسلام في الحكم التي قرأوا عن عدلها في سير الخلفاء الراشدين. غير أن لا أحد يشك مع ذلك في أن الإخلاص وحده لا يصنع نجاحا، فما أن تمكنت داعش، كما طالبان، من بسط سيطرتها على المناطق (المحررة) حتى صعب عليها أجرأة الشعار إلى برنامج عملي من شأنه تحقيق التنمية والنهضة المرتقبة، وتحوّل التنظيم إلى حركة وعظية أخلاقية تختزل دولة الخلافة في قوانين شرعية معزولة تخص الحدود وشكل اللباس .. وهو أمر طبيعي لأنه تنظيم عسكري لم يُعن عند نشأته بأدبيات السياسة المتعلقة بالتدبير وكيفية ممارسة السلطة وطرق توزيع الثروة... تمثيلية مفضوحة فبعد أن تمدد داعش في وسط العراق وفرَّ، في تمثيلية مفضوحة، الشيعة نحو الجنوب وكذلك فعل الأكراد في الشمال، قامت أمريكا بقصف الحركة على تخوم أربيل لرسم الحدود ولجم اندفاع (سوبرمان)، وبعدها كرر داعش نفس نهج طالبان: فَرض الجزية على الأقليات، وألزم النساء بارتداء النقاب، ومنع الصور من على واجهات المتاجر، وطَبّق حدي الجلد والرجم... وأعدم مخالفيه، وجز بجهالة رؤوس الأبرياء... وها هو الإعلام الغربي ينشط مرة أخرى لشيطنة التجربة.. وها نحن ننتظر إسدال الستار بعد أن نشاهد بملل مشبع بمشاهد الدم الأليمة ما تبقى من فيلم طالبان: سيقف دور التنظيم عندما ينجح في تكنيس وسط العراق من الشيعة والأكراد، وسيُقصف لاحقا بكل قسوة بنيران الأمريكان، وسيحاصر شبابه في كل الأعالي والبطاح، سيفر من تبقى إلى سورية وسيتخطفهم هناك بلا رحمة خصومهم من المعارضة والنظام. أما في العراق فستزحف العشائر نحو الوسط وستتدخل أمريكا لتنصيب (كارزايها) السني... ثم بعد ذلك يتوافق الجميع على حل مشكل العراق في دولة فدرالية متعددة الأقاليم متمايزة المذاهب والقوميات كما يريد حقيقة العم سام (النهاية). لماذا تصر أمريكا على تقسيم العراق؟ قد لا يستهوي بعضنا حديث التاريخ الذي يجد الجواب في أسفار الكتب القديمة، حيث عبق بابل، وقصص ألف ليلة وليلة، وحكم الرشيد، ومكتبة دار الحكمة...مما يُحيل على السبي البابلي لليهود، ويسترجع مجد العرب أيام الدولة العباسية، ويذكر الغرب بالسبق العلمي للمسلمين..الجواب الذي يرى في إصرار أمريكا على تفتيت خارطة العراق ثأرا أيديولوجيا يترجم قرارات سياسية ذات مرجع صهيوني صليبي الأصل. إنه الجواب الذي دافع عنه كثيرا عالم المستقبليات المغربي المرحوم المهدي المنجرة. فيما العالم الأمريكي الشهير نعوم تشومسكي لا يبتعد كثيرا عن هذا التحليل وإن بلغة السياسة، فقد تحدث في كتابه المفيد ما الذي يريده حقيقة العم سام عن الاستراتيجية السياسية والعسكرية للولايات المتحدة تجاه العالم الثالث والتي يحكمها، في نظره، دوما هاجس الخوف من بروز النموذج الجيد، وفي استدلاله على هذه القناعة يسوق تشومسكي مجموعة من الأمثلة الدالة: (لاوس) في الستينيات، كانت أفقر دولة في العالم، بل لم يكن معظم الناس الذين يعيشون داخل مساحتها يعون أن هناك ثمة دولة اسمها (لاوس)، ولكن ما إن بدأ البعض إصلاحا اجتماعيا على نحو متواضع جدا، حتى قصفتهم واشنطن بوابل لا ينقطع من القنابل فمسحتهم من على سطح الأرض.. وفي غرنالدا- البلد الغاية في الصغر الذي قد لا تتمكن أبدا من العثور عليه في الخارطة، ويسكنه مائة ألف نسمة ينتجون جوز الهند- ما إن شرعت أيضا في إصلاح اجتماعي معتدل حتى سارعت واشنطن لوأد هذا الخطر..لو أن نيكارغوا والسالفادور اختفيا من على الكرة الأرضية لما لاحظ ذلك أحد، ومع ذلك تعرضت كل منها لهجمات شرسة من الولاياتالمتحدة كلفتها مئات الآلاف من القتلى وعدة مليارات من الدولارات...السبب الكائن وراء ذلك أنه كلما زاد ضعف وفقر الدولة، واستطاعت وهي هزيلة وفقيرة أن تنجح فإن خطرها يكمن في النظر إليها كنموذج، إذ ما دام أمكنها أن تنجح، فلم لا تنجح دول أخرى؟