عبد العالي رزاقي الإسلاميون في تركيا صَمدوا في وجه المؤسسة العسكرية والنظام اللائكي لغاية أن انتزعوا الحكومة ثم الرئاسة، وها هم يدخلون مرحلة "التوازنات الإقليمية". والإسلاميون الإيرانيون أسسوا دولة "المرجعيات الدينية" بعد أن فشلوا في تسويق "الإسلام الخميني" في المشرق العربي، وها هم يدخلون مرحلة "البحث عن حليف استراتيجي"، حتى لا تصيبهم لعنة القائل "لا رأي لمن لا يطاع". والجاليات الإسلامية في أمريكا والغرب عموما تعيش مرحلة "الابارتهايد الديني"، بعد أن عاش العالم الغربي مرحلة "الإسلام فوبية" بعد أحداث الثلاثاء 11 سبتمبر 2001. وبين إسلام الدولة، باختلاف الأنظمة المذهبية والسياسية، وبين "دولة الإسلام المنشودة" يبقى السؤال: لمن نحتكم؟ فيدرالية أم "دولة الأكراد"؟ تبنّي الكنغرس الأمريكي لتقسيم العراق إلى ثلاث فيدراليات يُمهّد الطريق أمام "المشروع الأمريكي الصهيوني" لقيام الدولة الكردية ذات الامتداد الجغرافي التركي، الإيراني، السوري والعراقي، وقد تنبهت الحكومة التركية إلى الخطر الذي يهدد أراضيها، فسارعت إلى انتزاع ثقة البرلمان في الحفاظ على أراضيها تحت غطاء "محاربة حزب العمال المسلح" ومطاردته من داخل الحدود العراقية، سعيا إلى إفشال "المشروع الأمريكي الصهيوني". وبالرغم من أن هناك 22 نائبا في البرلمان يمثلون أكراد تركيا إلا أنها فضلت الحسم العسكري على الحلّ السياسي، بعد أن تأكدت بأن "الوضع القائم" على حدودها مع العراق يسمح بذلك. الوفد "الأمريكي العراقي" المفاوض مع الأتراك يريد إقحام القوات الأممية لترسيم الحدود بين الدولتين، في حين أن تركيا تُطالب برؤوس "القيادة" وتسليم الأسلحة قبل تبني "الحل السياسي". ويبدو أن التنسيق "التركي -الإيراني" حول "المسألة الكردية" سيصل إلى مستوى التنسيق "التركي السوري" الذي مكن الحكومة التركية السابقة من إلقاء القبض على الزعيم الروحي لأكرادها. وستجد حكومة كردستان العراقية -الرافضة لوجود العلم العراقي في إقليمها- نفسها في ورطة سياسية، خاصة بعد أن وافق الرئيس العراقي جلال الطالباني على وضع "حزب العال" ضمن خانة "المنظمات الإرهابية" أثناء زيارته الأخيرة "لإسطنبول". المؤكد أن الشيعة والسنة لن يتنازلوا على كركوك لأكراد العراق، لأنها محافظة نفطية، والأكثر تأكيدا أن كردستان دون كركوك لا تستطيع المغامرة بالانفصال عن العراق. ولا أعتقد أن "المجتمع المدني" في الغرب وأمريكا سيسكت على اقتحام الجيش التركي لمواقع المقاومة الكردية التركية، وإنما سيقوم بمسيرات ومظاهرات للتنديد، لكن المؤكد أنها ستكون "ضد الجيش" وليس ضد الحكومة الإسلامية. ولأن الإسلام في تركيا ليس "ظاهرة عابرة" أو "موضة"، وقياداته ليست مثل قياداته في "الوطن العربي" و"الأقطار الإسلامية الأخرى"، فقد حوّل الأتراك إلى شعب يحظى بالاستقرار، ويحتل مكانة مرموقة بين بقية الشعوب، وإذا كان من حق الأكراد الأتراك أن يعبّروا عن هويتهم وثقافتهم، فإنه من حق الدولة التركية أن تضع حدا "لدعاة الانفصال". وأمريكا لا تستطيع أن تتحرك ضد تركيا، لأنها تملك مقومات الدولة الحديثة، وهي مرشحة لأن تلتحق ب "الاتحاد الأوروبي"، أو تقود "مشروع ساركوزي" المتمثل في "الاتحاد المتوسطي". ولا شك أن انتصار الشعب التركي لحزب إسلامي هو انتصار لمشروع دولة، وليس لمؤسسات ومنظمات خيرية همّها الوحيد هو توزيع الزكاة على الفقراء، واختيار الحكومة "منطق القوة" في حسم الموقف يدل على أنها لا تتنازل عن وحدتها أو وحدة أراضيها، وتعمل على تكريس "الدولة الإسلامية" التي تستمد شرعيتها من الشعب. العسكرة الدبلوماسية والعسكرة الإسلامية وإذا كانت معظم الدول العربية والإسلامية قد قادت حملات عسكرية لتطهير البلاد مما تصفه ب (الإسلام المتشدد) أو (التطرف الإسلامي) أو (الجماعات الإسلامية) فإنها تساهلت مع "دعاة الانفصال"، وتعاونت مع أمريكا لاستئصال جذور "الفكر الأصولي"، وإنشاء "الإسلام العلمي"، وإعادة صياغة "المنظومات التربوية" بما يستجيب للمشروع الأمريكي، بل وإن شعار "الإصلاح" الذي حملته بعض التيارات الإسلامية في الوطن العربي والعالم الإسلامي تعرض لهجمة شرسة وتضييق خناق على وسائله الإعلامية الدولية. والسوال الذي يطرح نفسه دائما: لماذا نقف ضد أمريكا وحركة الميز العنصري الديني فيها ضد الجاليات الإسلامية؟ لا يختلف اثنان بأن "عائلة بوش" ستدخل "التاريخ العربي الإسلامي" فهي محررة الكويت ومؤسسة مشروع "الدولة الفلسطينية الافتراضية". ولكن التاريخ سيكتب "ميلاد الامبراطورية الأمريكية" وسقوط دولة العراق ودولة أفغانستان لأنهما اعترضتا على المشروع الأمريكي. وسيُسجّل أن الفضل في احتلال أفغانستان والعراق يعود إلى العرب والمسلمين من شيعة وسنة، واختيار أمريكا عسكرة دبلوماسيتها في معظم الأقطار العربية والإسلامية جعلها أكثر قربا من المؤسسات العسكرية والاقتصادية. لكن أمريكا ستفقد "بوش"، ويأتي الديمقراطيون على بقايا الجمهوريين، ليواصلوا ما بدأته عائلة بوش من "إنجازات اقتصادية وعسكرية"، ولا يتكرر "سيناريو الفتنام" في أمريكا، بسبب احتلالها العراق، لأن الجيش الأمريكي الموجود في العراق من أبناء الفقراء والمرتزقة، وبالتالي، فإن جثث الأموات تجلب للعائلة المال والجاه، عكس ما كان في الفيتنام حيث كان المفقود الأمريكي يثير ردود أفعال العائلات والمجتمع المدني، ويجلب العار لأهله. هذه هي الحقيقة التي تخفيها الإدارة الأمريكية عن الشعب الأمريكي، والرأي العام، وتتجاهلها وسائل الإعلام، ولا ينتبه إليها المحللون السياسيون. وحين قضت أمريكا على "حلم الطالبان" في إقامة "الدولة الإسلامية" بالمفهوم الإلهي، وهو تطبيق الشريعة الإسلامية، وتهديم "الأصنام"، وجدت نفسها أمام تنامي "الصحوة الإسلامية" في الغرب والحركات الأصولية عند العرب والمسلمين. وتبيّن لها أن الخطر هو في وجود "النظام الإيراني"، لأنه يريد بناء دولة لا تزول بزوال البترول، بعد أن استقطب العلماء، وأصبح له جناحان أحدهما في أفغانستان والثاني في العراق، وكأنه "نظام عراقي جديد" بلباس إسلامي. وبالرغم من أن شعار أمريكا والغرب هو منع قيام "دولة إسلامية نووية جديدة"، فإن الملف النووي الإيراني هو مجرد واجهة للضغط على النظام الإيراني ودفعه إلى "التعامل الإيجابي" مع أمريكا لاستتباب الأمن في العراق وأفغانستان، ووضع الحرس الجمهوري، وفيلق القدس في خانة التنظيمات الإرهابية هو بمثابة توسيع الضغوط على النظام. وأمريكا لا تريد لإيران لأن تكون مستقلة عن الغرب في استخدامها للتكنولوجيا، والبيت الأبيض لا يستبعد توجيه ضربات استباقية جوية. وما دام النظام الإيراني يدعم حزب الله ولا يعترف بإسرائيل فإنه يبقى العدو "رقم واحد" لأمريكا والغرب. واحتدام المنافسة على رئاسة البيت الأبيض جعل الديمقراطيين يحركون الشارع ضد الحرب في العراق، ودفع بالجمهوريين إلى تحريك "الأنجليين" في الشارع الأمريكي لمكافحة الإسلام و"التوعية" بخطره القادم. فرجال بوش يوظفون ما يسمى ب (الخطر الإسلامي) القادم من إيران، وشبكات القاعدة لتعبئة الرأي العام الداخلي والدولي، بينما الديمقراطيون يحاولون إقناع الأمريكيين بفشل سياسة بوش. ويبدو أن الأوراق الرسمية للحكومة الأمريكية ل (تحقيق النجاج) هو مؤتمر السلام (الفلسطيني الإسرائيلي) في الشهر القادم، والتدخل في إيران، وتقسيم العراق، وإثارة المشاكل في السودان، ودعم الحكومة اللبنانية. لكن هذه "الملفات" لا تستطيع أمريكا تحقيق أي نجاح فيها، فالأتراك دخلوا على الخط لمنع قيام "الدولة الكردية" على حدودها، وروسيا تحركت لاسترجاع ما ضيعته في العراق، ومنع قيام الصواريخ في مجالها الحيوي، والصين اعتبرت دعم أمريكا للانفصاليين في تايوان بمثابة "مساس بأمنها القومي". ويقول العارفون بالشأن الإسلامي بأن الاعتداء على إيران سيكون كارثة على أمريكا والغرب، لأن الحرب ستصبح صليبية، وستكون بين المسيحيين والمسلمين، وليس بين "تيار إسلامي متطرف" ودول معتدلة. وما دامت منابع النفط أو الطاقة والمعابر بين القارات هي بأيدي دول إسلامية وعربية، فإن الحرب العالمية الثالثة غير مستبعدة، وستكون بين من يحملون أسلحة الدمار الشامل في أيديهم ومن يحملوها في قلوبهم. والتاريخ ينتصر للعقيدة وليس للقوة، وللفقراء وليس للأغنياء، فهل ستدرك أمريكا أنها ستدخل حربا وقودها أبناؤها، ونيرانها أسلحتها الفتاكة.