من بعض الناس بالمصادفة والطبيعة، فتوهم أن هذا الكون البديع بما فيه من شموس وأقمار، وجبال وأنهار يسير بلا هدف أو غاية، واعتقد بعضهم بعبثية الأقدار فقال: "جئت ولا أدري من أين أتيت ولكني أبصرت طريقاً فمشيت؟"، والواقع أن كلا المنطقين خلط سقيم لم يؤمن بحكمة العلى الأعلى الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، وبحكمته وقدرته أخرج المرعى، وبرحمته أضحك وأبكى، وأمات وأحيا، ثم كان إليه المنتهى لتجزى كل نفس بما تسعى. ليعلن بذلك كما قال عز وجل في كتابه «وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى» النجم39-40-41. وعندما نقرر ذلك نؤسسه على اعتبار أن الكائنات حيها وجمادها لا تخرج في سيرها وانتظامها عن نوعين من السنن: سنن كونية، وأخرى أخلاقية، فالسنن الكونية تتعلق بالكون وما فيه من أرض وسماء ورياح وأمطار وشموس وأقمار ونبات وأشجار وليل ونهار.. كل هذه المظاهر وغيرها أخضعها خالقها وباريها لقوانين مضبوطة، وسيرها وفق سنن دقيقة كشف العلم عن بعضها، ووقف عاجزاً أمام بعضها الآخر.. «لا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» يس 40. وقد أشارت النصوص القرآنية إلى بعض من هذه السنن الكونية، والقوانين الإلهية فيها، فنجد مما يدل على ذلك قول الحق سبحانه: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ» يونس 5-6. وقوله سبحانه: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ».... «وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ» المؤمنون 12-22. ونجد بجانب ذلك آيات أخرى تتعلق بسنن ونواميس إلهية من شأنها أن تحفز الإنسان وتجعله يرتقي بمواهبه وملكاته متشبثاً بالأمل مهما هددته الشدائد وأحدقت به المخاطر. هنا يقرأ سنة الله تعالى في كونه والتي يعلن عنها في قوله سبحانه «إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا» الكهف 30. وقوله سبحانه «وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ» الروم 47. وقوله سبحانه «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ» النحل 128. وإذا كان الجانب المادي من هذا الكون قد حكم بهذه القوانين والسنن الإلهية، فإن الجانب غير المنظور فيه له سنن إلهية تضبطه، وقوانين تسيره وتحكمه. فقوانين الأخلاق وسننها قد تكون غير مادية، ولكنها مثل السنن الكونية تضبط السلوك وتحكمه، لذا أجراها الله تعالى على خلقه وعباده. هذه القوانين وتلك السنن منها ما هو عام يشمل الخير بأنواعه، والحق بشتى صنوفه وألوانه، ومنها ما يختص بخلق معين وفضيلة محددة، فمما يتعلق بالقوانين والسنن الأخلاقية العامة قول الحق سبحانه: «قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ» المائدة 100. وقوله سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ» الرعد 11. وقوله -صلى الله عليه وسلم- الذي رواه الإمام مسلم «من دل على خير فله مثل أجر فاعله». فهذه وغيرها نصوص تمثل سنناً وقوانين أخلاقية تعم أنواع الخير كافة، وتشمل سائر أنواع البر. ومن القوانين والسنن الأخلاقية ما هو خاص يقترن بخلق معين، فمن ذلك نجد للرحمة سننها وقوانينها، كما في قول النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي رواه الإمام أحمد «لا تنزع الرحمة إلا من شقي». وقوله -صلى الله عليه وسلم- «إن كنتم ترجون رحمتي فارحموا خلقي». كذلك نجد للعدل قوانينه وسننه، نقرأ في ذلك قول الله سبحانه: «إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ» الأنعام 21. وقوله -صلى الله عليه وسلم- «من أعان ظالماً سلطه الله عليه». كذلك نجد للصبر سننه وقوانينه، حيث يقول الحق سبحانه: «إِنَّهُ مَنَّ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» يوسف 90. وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي رواه الإمام أحمد «يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خفف عنه، وما يزال البلاء بالعبد حتى يمشى على ظهر الأرض وليس عليه خطيئة». وتدلنا النصوص القرآنية على أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين السنن المادية الكونية والسنن الأخلاقية، إذ إن الحق سبحانه قد ربط في كتابه بين هذين الجانبين رباطاً وثيقاً، وأوجد بينهما تناغماً دقيقاً، فالسنن الكونية تضبط سير الكون ونواميسه، والسنن الأخلاقية تضبط أخلاق الإنسان وسلوكه، ومن ثم يترتب أحدهما على الآخر. ذلك قول الحق سبحانه: «وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمرَه قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا» الطلاق 2- 3. وقوله سبحانه: «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ» النحل 112.