ومن المهم هنا: أن نسلِّط الضوء على معنى (فرض العين) في الجهاد، حيث قرَّر الفقهاء من جميع المذاهب: أن البلد الذي يهاجمه الغُزاة من الكفار المعادين، أو يحتلونه بالفعل: يفرض على أهله جميعا - فرضية عينية - أن يقاوموا وينفروا كافة لطرد الغزاة، وردِّهم على أعقابهم مدحورين. وهذا هو الذي قال فيه الفقهاء: تخرج المرأة للاشتراك في المقاومة، بدون إذن زوجها، والابن بغير إذن أبيه، والخادم بغير إذن مخدومه، لأن حق الجماعة العام مقدَّم على حقوق الأفراد الخاصة. ولو هلكت الجماعة - لا قدر الله - لهلك الأفراد، ولم يبقَ لهم حقوق خاصة ولا عامة. وهذا النوع من تحقيق القيام بفرض العين المطلوب: واضح بيِّن لا ريب فيه، ولا خلاف عليه. ولكن الذي يحتاج إلى بيان وإيضاح، هو ما قرَّره عامة الفقهاء من أن أهل البلد الذي يغزوه الأعداء: إذا لم يقدر على مقاومتهم، لأنهم أكثر عددا، أو أقوى جندا، أو أمهر في الحرب، وأبرع في الكيد، أو يملكون من الأسلحة المتطوِّرة ما لا يملكه هؤلاء المسلمون، أو كان المسلمون المغزوُّون قادرين على مقاومتهم وردِّهم، ولكنهم جبنوا وتقاعسوا، أو اختلفوا وتفرَّقوا، ولم يقوموا بواجبهم، فهناك تنتقل الفرضية العينية إلى جيرانهم وأقرب الناس إليهم، وأسرعهم نجدة لهم، فإن لم يقدر هؤلاء أيضا، أو قدروا ولكن تقاعسوا: انتقل الفرض إلى جيرانهم وأقرب المسلمين إليهم، وهكذا حتى يشمل المسلمين كافَّة، وإن كانوا في أقصى أطراف الأرض.وهنا يبرز لنا سؤال مهم، بل في غاية الأهمية، وهو: كيف نحقِّق فرض العين في هذه الحالة: أعني إذا عجز أهل البلد عن مقاومة العدو الغازي، أو تقاعسوا، وعجز جيرانهم أو تقاعسوا عن نصرتهم، وانتقل فرض العين إلى جيرانهم، الأقرب فالأقرب، حتى يشمل المسلمين كافَّة في مشارق الأرض ومغاربها؟ ص109هنا يتكرَّر السؤال مرة أخرى: كيف نحقَّق ذلك في الواقع؟ هل نوجب على المسلمين في أنحاء الأرض أن ينتقلوا إلى الأرض التي احتلَّها الأعداء، وتذهب المرأة إليها بدون إذن الزوج، والابن بدون إذن الأب، والمرؤوس بدون إذن الرئيس؟هكذا سمعت بعض الإخوة من العلماء المتحمِّسين يقولون ذلك، بالنسبة للجهاد في فلسطين، وكذلك أيام الجهاد الأفغاني للاتحاد السوفييتي! ولكن تطبيق هذا في الواقع غير ميسور، بل غير ممكن، بل غير معقول. كما أنه غير مفيد أيضا.إذ كيف يترك الناس أوطانهم وديارهم، وينفرون إلى البلد الذي احتلَّه الكفار المحاربون؟ كيف تترك المرأة بيتها وأولادها، وتنتقل إلى تلك الأرض البعيدة، حتى وإن أذن لها زوجها؟ وكيف يترك التجار جميعا تجارتهم؟ والطلاب جميعا مدارسهم وجامعاتهم، والفلاحون جميعا حقولهم؟ والموظفون جميعا مكاتبهم؟ والعمال جميعا مصانعهم؟ والحِرَفيون جميعا حِرَفهم؟ وكيف تسير الحياة بغير هؤلاء؟ إننا بهذا نريد للحياة أن تتوقف في أنحاء (دار الإسلام) وبعبارة أخرى: في أوطان المسلمين، لإنقاذ البلد المغزوِّ. فكأنما نميت الكل لإحياء البعض، أو نميت الأكثر لإحياء الأقل. وهذا لا يقرُّه شرع ولا عقل. ثم أي بلد في الدنيا يمكنه أن يتسع لشعوب أخرى تهاجر إليه، حتى لو كان ذلك لمساعدته على التحرُّر، وإنقاذه من الاحتلال الغاشم؟ ومن المعلوم: أن كل مقاتل يحتاج إلى أعداد أخرى من المدنيين تخدمه وتمدُّه بما يفتقر إليه من أساسيات الحياة، فلا بدَّ له من طعام وشراب وكساء وفراش وغطاء، وتدفئة، وكهرباء، ودواء، وسلاح. وهذا لا يتوافر إلاَّ من طريق الجبهة الداخلية المدنية، لإمداد المقاتلين والمدافعين، فهؤلاء يجاهدون في مواقعهم بعملهم ونياتهم. ص110والذي أطمئن إلى القول به هنا: أن أبناء البلد المغزوِّ حين يفاجأ بالغزو: يجب أن ينفروا لمقاومة الغزاة بكل طاقتهم، كلٌّ بما يقدر عليه، وما يُحسنه، حسبما ترتِّبه السلطة المسؤولة عن الجهاد، سواء كانت سلطة الدولة إن كانت قائمة، أم سلطة الجماعة التي يختارها أهل الحلِّ والعقد عند غياب الدولة. فللرجال ما يليق بهم، وللنساء ما يليق بهن، وللشيوخ ما يليق بهم، وللصبيان ما يليق بهم. وللمثقفين ما يليق بهم، وللأميين ما يليق بهم. والمطلوب أن يُوضع كل في مكانه المناسب له. أما إذا عجز أهل البلد المغزوِّ وجيرانه عن مقاومة العدو، لأي سبب كان، أو تقاعسوا أو عصَوْا وخالفوا، وانتقلت الفرضية لتشمل الأمة كلها، فأرى أن واجب الأمة هنا، ليس انتقال الجميع بالأبدان إلى أرض القتال، فإن هذا غير ممكن، وغير مُجدٍ، ولكن الواجب عندئذ هو مساعدة الجميع في نصرة إخوانهم ونجدتهم، كلٌّ بما يقدر عليه، وإمدادهم بما يحتاجون إليه من سلاح، ومعدات، وتموين، وأموال، ورجال، وأن تلبَى طلباتهم بأقصى سرعة ممكنة، وبخاصَّة ما تشتد حاجتهم إليه. فقد تكون حاجتهم الناجزة إلى المال، فيمَدُّون بالمال، من الزكاة من مصرف (في سبيل الله)، وممَّا بعد الزكاة من حقوق في المال، ومن موارد الدولة المتنوعة ... ومن الفرائض المقرَّرة هنا: الجهاد بالأموال، وقد قدَّمه القرآن على الجهاد بالأنفس: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:41]، ومما يتطوَّع به أهل الخير احتسابا وابتغاء وجه الله، مما قلَّ أو كثُر، كما قال تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [البقرة:272].وقد تكون حاجتهم الناجزة إلى السلاح، فيجب أن يمَدُّوا بما طلبوه، وأن يتعاون المسلمون في ذلك، سواء بصنعه - وهذا هو الأصل الذي ضيعناه - أو بشرائه ممَّن يصنعه إذا لم يكن يتوافر في مخازن الجيش والقوَّات المسلحة. وقد تكون حاجتهم الناجزة إلى الرجال، ولا سيما أهل الخبرة الخاصة منهم، فقد تكون حاجتهم إلى متخصصين في سلاح الطيران، أو في سلاح الفرسان، ص111 أو في سلاح المدرعات، أو في سلاح المهندسين، أو في حرب العصابات، أو في حرب الصحاري أو الجبال، فمَن كان عنده هذه الخبرة التي يطلبونها: افترض عينا عليه أن يقدِّم نفسه لهم، أو تقدِّمه الجماعة المسؤولة إليهم. ولا يجوز للفرد، ولا للجماعة التخلف عن ذلك بلا عذر، فإن سدَّ هذه الثغرة قد تعيَّن عليه، أو عليها، فلا يحل له ولا لها التخلِّي عنها.وهكذا يتحدَّد فرض العين هنا في جهاد الدفع في عدة أمور: 1 - المساهمة في الجهاد بالمال، كل بما يقدر عليه أو بما يُطلب منه. 2 – المساهمة في الإمداد بالسلاح الذي يحتاجون إليه، حسب الاستطاعة. 3- المساهمة في الجهاد بنفسه إذا طُلب منه ذلك. 4 - المساهمة بالخبرة الفنية أو العسكرية إذا طلبوها، وكان من أهلها، فيتعيَّن عليه الاستجابة.على كلِّ مسلم أمران:ويجب على كل مسلم في هذه الحالة أمران لا يجوز إغفالهما:الأول: أن يصطحب نية الجهاد في سبيل الله، سواء أُتيح له الجهاد بالفعل أم لم يُتَح، لأن هذه النية تجعله يشارك المجاهدين وإن لم يكن معهم، وإنما لكل امرئ ما نوى. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عمَّن تخلَّفوا عن غزوة تبوك لأعذار حبستهم عن المشاركة مع جيش النبي صلى الله عليه وسلم: "إن بالمدينة رجالا ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم! شَرِكوكم في الأجر، حبسهم المرض".ويستطيع المسلم بهذه النيَّة الصادقة أن يحسب عند الله في الشهداء، وينال مثوبتهم في الآخرة، كما في الحديث الصحيح: "مَن سأل الله الشهادة بصدق: بلَّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه". والثاني: أن يكون مستعدا لتلبية النداء إذا دُعي للمعركة في أي وقت، دون تلكُّؤ ولا إبطاء. ص112التخلي عن نصرة المسلمين من الكبائر:ولا يجوز لمسلم أن يتخلَّى عن أي عون يُطلب منه لنصرة إخوانه، فهذا من أكبر المحرَّمات في الإسلام؛ لعدة أسباب: أولا: لأن "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله" - كما جاء في الحديث الصحيح - وإسلامه وخذلانه: أن يتخلَّى عنه وقت الشدَّة، ولا ينصره. وثانيا: لأنه في الواقع يدافع عن جزء من (دار الإسلام) التي هي داره، ولا يُقبل من مسلم بحال: أن يَدَع داره لأعدائه وأعداء دينه وأمته، وفيه عرق ينبِض.وهكذا ينبغي النظر إلى بلاد المسلمين كلها: أننا حين ندافع عنها إنما ندافع عن دار الإسلام. أي ندافع عن أنفسنا، عن أرضنا وحرماتنا. ولهذا أجمع الفقهاء على أن أهل بلد ما لو تقاعسوا عن الدفاع عن بلدهم وجب على جيرانهم الأقرب فالأقرب: أن يدافعوا عنها، باعتبار أن الدفاع عن أرض الإسلام فرض على الأمة كلها. وثالثا: إننا إذا تهاونَّا في هذه الفريضة، وقلنا: الخطر بعيد عن وطننا الخاص، نكون قد أتحنا فرصة لعدونا، ليستولي على دار الإسلام، بلدا بلدا، وجزءا جزءا، حتى يستولي عليها كلها أو جُلها، ويستولي على وطننا الخاص معها! كما فعل التتار، حين زحفوا على بلاد الإسلام في القرن السابع الهجري، وأخذوها وغلبوا عليها، بلدا بلدا، وولاية ولاية، حتى أسقطوا أخيرا بغداد عاصمة الخلافة سنة (656ه) وهكذا من ضَيَّع إخوانه ضَيَّع في النهاية نفسه. على حد ما قال العرب: إنما أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض!على المسلمين تنظيم أمرهم:وينبغي على المسلمين في هذا الحالات التي يصبح الجهاد فيها فرض عين على الأمة: أن يكون لهم جهة معينة مثل (منظمة المؤتمر الإسلامي)، أو ما يقوم ص113 مقامها: تكوِّن (لجنة عليا) من أهل الوجاهة والحكمة والخبرة من المسلمين، تشرف على الجهاد وتأييده وتنظيمه، بما يضمن تحقيق الهدف وحسن الأداء.وقد يحتاج الأمر إلى أكثر من لجنة: لجنة عسكرية، ولجنة اقتصادية، ولجنة سياسية، ولجنة إعلامية، ولجنة تربوية ... إلخ. ولا يُترَك الأمر فوضى، أو للمصادفات، والإسلام يطلب من المسلمين أن ينظِّموا أمرهم، حتى لو كانوا ثلاثة في سفر، أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم: أن يؤمِّروا عليهم واحدا. ص114 الفصل السادسدور المرأة في الجهادينظر الإسلام إلى المرأة باعتبارها شقيقة الرجل، وشريكته وعونه في أداء مهمتهما في الحياة، بكل أبعادها وآفاقها الرُّوحية والمادية، الفردية والاجتماعية.ومنطلق هذه النظرة: النصوص المُحكمات من القرآن والسنة، مثل قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:35].وقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} [التوبة:71].فهذه الآية تقرِّر بجلاء: أن المؤمنات من النساء كالمؤمنين من الرجال، يشترك الفريقان في الوظائف والفرائض الاجتماعية والسياسية، وأبرز هذه الفرائض: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا فرق فيه بين رجل وامرأة. وإذا كان {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ} يشتركون معا في الشر والإفساد، فإن (المؤمنين والمؤمنات) يشتركون في الخير والإصلاح. ولهذا جاءت هذه الآية بعد آية: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة:67]. ومن هذه النصوص القرآنية قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران:195]. ص115لقد قرَّرت الآية الكريمة: أن الرجال والنساء بعضهم من بعض، فالرجل من المرأة، والمرأة من الرجل، لا يستغني عنها، ولا تستغني عنه. هو يكمِّلها، وهي تكمِّله، ثم ذكرت الآية عددا من الأعمال والقُرُبات مَن قام بها من الجنسين، فله حسن الثواب عند الله، قال: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران:195]. ومعنى هذا: أن من النساء مَن تهاجر وتُخْرَج مَن ديارها، ومَن تؤذَى في سبيل الله، ومَن تقاتل وتُقْتَل في سبيل الله. فهذا من ثمرات هذه الحقيقة الكونية: المرأة من الرجل، والرجل من المرأة {بَعْضُكُمْ مِن بَعْضٍ}.ولقد ذكر لنا القرآن سورة من سوره المدنيَّة، سُمِّيت سورة (الممتحنة) أيْ المرأة الممتحَنة، وهي تتحدَّث عن جملة من النساء اللائي آمنَّ بالإسلام، ولم يُسلِم أزواجهنَّ، فاضطُّررن أن يهاجرن بدينهنَّ، وأن يخرجن من بلدهنَّ وأهلهنَّ، من مكة إلى المدينة مهاجرات في سبيل الله، قاصدات الوصول إلى الرسول، وإلى الجماعة المؤمنة، ونزل فيهم قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10].فهكذا رأينا هؤلاء النسوة يقطعن هذه المسافة الشاسعة بين مكةوالمدينة، بوسائل المواصلات المعروفة في ذلك الوقت، وليس معهنَّ رجال يحرسونهنَّ، فقد فررن من أزواجهنَّ ومحارمهنَّ المشركين. وهذه الهجرة - ولا شك - ضرب من الجهاد لا يقدر عليه إلا القليلون من الرجال، فما بالك بالنساء؟!وفي السنة النبوية قرأنا الحديث الشريف الذي يقول: "إنما النساء شقائق الرجال". قال الإمام الخطابي: (أي نظائرهم وأمثالهم في الخَلق والطباع، فكأنهن شُققن من الرجال). ص116ومما يؤكِّد مكانة المرأة في القرآن كذلك: سورة (المجادلة) التي افتتحت بقول الله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1]، فهذه المرأة التي آمنت بحقِّها، وجادلت النبي الكريم في أمرها مع زوجها، قد سمع الله جدالها من فوق سبع سموات، وأنزل الله فيها قرآنا يُتلَى أبد الدهر.ولكن من المؤكد: أن بعض أعمال الجهاد التي تحتاج إلى جهد بدني شاق؛ لا يصلح في العادة للمرأة العادية، ولا تصلح له. فإن الله تعالى بعدله وحكمته قد منح المرأة من النعومة والرِّقة ما يجعلها غير صالحة لكثير من الأعمال المجهدة التي يقوم بها الرجال. لأن الله سبحانه وتعالى قد أعدَّ المرأة لتكون أُما، من الناحية البدنية، ومن الناحية العصبية والوجدانية، فجهَّزها بجهاز عاطفي قوي متميز، لتتحمل متاعب الحمل والوضع والإرضاع والحضانة، وكل هذا يجعل المرأة بعيدة عن اللياقة الكاملة للعمل الجهادي البدني، بما فيه من مكابدة للمشقَّة، وممارسة للعنف، ولو في ردِّ عنف الآخرين.وهذا ما جعل القتال عند الأمم كافة، وطوال التاريخ من نصيب الرجال في الأساس، وإن كان هذا لا يمنع المرأة أن تشارك الرجال في بعض الأعمال المُساعِدة في الحرب، المُلائمة لقدرات المرأة وخبرتها في الحياة.وهذا ما جرى عليه العمل في عهد النبوة، فأسهم بعض أمهات المؤمنين، ونساء الصحابة، في معاونة المقاتلين المسلمين في بعض الغزوات، ببعض الخدمات المناسبة التي كان لها أثرها في خدمة المعركة.ترجم الإمام البخاري في كتاب الجهاد من صحيحه: (باب غزو النساء وقتالهن مع الرجال)، وذكر فيه حديث أنس رضي الله عنه قال: لمَّا كان يومُ أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: ولقد رأيتُ عائشة بنت أبي بكر وأم سُلَيم (أُمَّه) وإنهما لمشمرتان، أرى خَدَم سوقهما (أي الخلاخيل في سيقانهما) تنقزان القِرَب - وقال غيره: تنقلان القِرَب - على متونهما (أي ظهورهما)، ثم تفرغانه في أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآنها، ثم تجيئان فتفرغانها في أفواه القوم. ص117وروى مسلم عن ابن عباس: كان يغزو بهنَّ، فيداوين الجرحى....وعلَّق العلاَّمة ابن المنيِّر على هذا الحديث في البخاري، فقال: (بوَّب على (قتالهن) وليس هو في الحديث، فإما أن يريد أن إعانتهنَّ على الغزو غزو، وإما أن يريد: أنهن ما ثبتن لسقي الجرحى، ونحو ذلك، إلا وهنَّ بصدد أن يدافعن عن أنفسهنَّ، وهو الغالب) انتهى.وقد ذكر ابن سعد في (طبقاته) في ترجمة أم عُمَارة الأنصارية، عن عمر قال: لقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ما التفتُّ يمينا ولا شمالا يوم أحد إلا وأنا أراها تقاتل دوني".وقد ذكر ذلك كُتَّاب السيرة النبوية.وهذا دليل جلي على أن جهاد المرأة في أُحد لم يكتفِ بخدمة الجيش، بل قاتلت بالفعل مع الرجال، كما صنعت أم عُمَارة رضي الله عنها.قال الحافظ في الفتح: (وقد وقع عند مسلم من وجه آخر عن أنس: أن أم سُلَيم اتخذت خنجرا يوم حنين، قالت: اتخذتُه، إن دنا مني أحد من المشركين بقرتُ به بطنه.كما ورد أن صفية بنت عبد المطلب - عمة النبي صلى الله عليه وسلم - قتلت يهوديا في غزوة الخندق، جَبُن عنه حسان بن ثابت. ضربته بعمود في رأسه، فقتلته، قالوا: وهي أول امرأة قتلت رجلا من المشركين. ص118وذكر البخاري بابا آخر: باب حمل النساء القِرَب إلى الناس في الغزو، وأورد فيه حديث ثعلبة بن أبي مالك: أن عمر بن الخطاب قسم مُرُوطا بين نساء من نساء المدينة، فبقي مِرْط جيد، فقال له بعض مَن عنده: يا أمير المؤمنين، أعطِ هذا ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عندك. يريدون: أم كلثوم بنت علي (زوج عمر) فقال عمر: أُمّ سَلِيط أحق. وأم سَلِيط من نساء الأنصار، ممَّن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال عمر: فإنها كانت تَزْفِر لنا القِرَب يوم أُحد.قال أبو عبد الله البخاري: تَزْفر: تخيط، وهو معنى قول بعضهم: تخرز. وقال آخرون: تَزْفِر: تحمل.وذكر البخاري كذلك: (باب مداواة النساء الجرحى في الغزو). وبعده: (باب ردِّ النساء الجرحى والقتلى إلى المدينة). وذكر في البابين حديث الرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذ: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنسقي ونداوي الجرحى. وفي طريق آخر: كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم فنسقي القوم ونخدُمهم، ونردُّ الجرحى والقتلى إلى المدينة. قال الحافظ في شرح الحديث: (فيه جواز معالجة المرأة الأجنبية للرجل الأجنبي للضرورة. وعلَّل ذلك بعضهم بأن موضع الجُرح لا يلتذُّ بلمسه، بل يقشعرُّ منه الجلد).وذكر ابن إسحاق في قصة سعد بن معاذ رضي الله عنه، لما أصيب في غزوة الخندق، فقال رسول الله: "اجعلوه في خيمة رُفَيدة، التي في المسجد، حتى ص119 أعوده من قريب". وكانت امرأة تداوي الجرحى، وتحتسب بنفسها على خدمة مَن كانت به ضيعة من المسلمين.وروى نحو ذلك البخاري في الأدب المفرد عن محمود بن لَبِيد.و(رُفيدة) هذه أنصارية أو أَسْلَمية كما قال ابن حجر في (الإصابة). ويعتبر الباحثون في (مهنة التمريض) رُفيدة أول ممرِّضة في الإسلام. وخيمتها هذه أول مستشفى ميداني لعلاج جرحى الحرب وتمريضهم. وكانت رُفيدة ممرِّضة متطوِّعة وتقوم بعملها احتسابا.وذكر البخاري في هذا السياق: (باب غزو المرأة في البحر) أورد فيه حديث أنس في قصة أم حَرَام بنت مِلْحان. قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنة مِلحان، فاتَّكأ عندها، ثم ضحك، فقالت: لم تضحك، يا رسول الله؟ فقال: "ناس من أمتي يركبون البحر الأخضر في سبيل الله، مَثَلُهم مَثَل الملوك على الأَسِرَّة!". فقالت: يا رسول الله، ادعُ الله أن يجعلني منهم. فقال: "اللهم اجعلها منهم". ثم عاد فضحك، فقالت له مثل - أو ممَّ - ذلك، فقال لها مثل ذلك، فقالت: ادعُ الله أن يجعلني منهم. فقال: "أنت من الأولين، ولستِ من الآخرين". قال أنس: فتزوجت عُبادة بن الصامت، فركبت البحر مع بنت قَرَظَة (زوج معاوية)، فلما قَفَلَت (رجعت من الغزو)، ركبت دابتها فوَقَصَت بها، فسقطت عنها، فماتت.فانظر إلى طموح النساء المسلمات في ذلك العهد إلى أن يشاركن الرجال في معالي الأمور، وإن كان فيها من المشقَّة ما فيها، وكيف استجاب النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الطموح، ولم يقُل للمرأة: قَرِّي في بيتك ولا تتطلعي لمثل هذا الأمر الخطر! ص120 وكان ركوب البحر غير معروف عند العرب في الجاهلية، ومخاطره كبيرة، والسفن المستخدمة سفن شراعية، كثيرا ما تهدِّدها الرياح العاصفة، ويحيط بها الموج من كلِّ مكان. ولكن الرسول أغرى به وحثَّ عليه، بمثل هذه المبشرات. وقد بدأت القوة البحرية الإسلامية في عهد عثمان رضي الله عنه، بإغراء معاوية واليه على الشام وتحريضه. وتوسَّعت كثيرا في خلافة معاوية. وكان لها دورها في الفتوحات الإسلامية، وخصوصا بعد صلح الحسن السِّبط رضي الله عنه، مع معاوية، واستقرار الحياة السياسية للمسلمين.وقد بدأ البخاري هذا السياق في كتاب الجهاد من جامعه الصحيح بباب سماه (باب جهاد النساء)، ساق فيه حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد، فقال: "جهادكنَّ الحج".وساق من طريق آخر عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم، سأله نساؤه عن الجهاد، فقال: "نِعم الجهاد: الحج".قال الحافظ: (وله شاهد من حديث أبي هريرة، أخرجه النَّسائي بلفظ: "جهاد الكبير (أي الشيخ العاجز الضعيف) والمرأة: الحج والعمرة".وفي هذا دلالة على أن الجهاد - بمعنى القتال - ليس واجبا على النساء، وهو ما صرَّح به شُرَّاح الحديث كابن بَطَّال وغيره. قال: ولكن ليس في قوله: "جهادكن الحج": أنه ليس لهنَّ أن يتطوعن بالجهاد. قال الحافظ: (وقد لمَّح البخاري بذلك في إيراده الترجمة مجملة (أي جهاد النساء) وتعقيبها التراجم المُصرِّحة بخروج النساء إلى الجهاد). ص121وروى مسلم، عن أم عطية الأنصارية قالت: غزوتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات: أخلفهم في رحالهم: فأصنع لهم الطعام، وأداوي الجرحى، وأقوم على المرضى.كما سجَّل لنا تاريخ الإسلام: أن المرأة المسلمة شاركت في (الفتوحات الإسلامية) بنصيب، فرأينا أكثر من صحابية تشارك في حرب الروم خاصَّة، مثل (موقعة اليرموك)، وهي إحدى المعارك الحاسمة في التاريخ.روى سعيد بن منصور في سننه، عن عبد الله بن قُرْط الأزدي، قال: غزوتُ الروم مع خالد بن الوليد، فرأيتُ نساء خالد، ونساء أصحابه، مشمِّرات يحملن الماء للمهاجرين، يرتجزن. أي ينشدن الشعر من بحر الرَّجَز، وهو بحر سهل خفيف.وإذا كان نساء خالد، ونساء أصحابه معه، قد شمَّرن عن سوقهنَّ يحملن قِرَب الماء لسقاية العطشى من الصحابة، وخصوصا المهاجرين، فقد رأينا من الصحابيات مَن باشرت القتال مع جنود الروم وقتلت منهم! فيروي سعيد بن منصور في سننه أيضا، كما يروي الطبراني في معجمه الكبير: أن أسماء بنت يزيد الأنصارية، شهدت (اليرموك) مع الناس، فقتلت (سبعة)، وفي رواية الطبراني (تسعة) بعمود فسطاط ظلتها.فانظر كيف انتقلت رضي الله عنها - كما انتقل أخواتها من الصحابيات - من المدينة إلى الشام، لتشهد المعركة، وتشارك فيها بأكثر من مجرَّد إسعاف الجرحى، وسقي العطشى، بل بالقتال حين احتاج الأمر إلى القتال، ونراها تستخدم في ذلك ص122 ما يمكنها حتى عمود خيمتها! ولا بد أن هؤلاء الجنود من الأعداء حاولوا أن يحوموا حول الحريم، فكانت لهم بالمرصاد، وجندلتهم واحدا بعد الآخر.وروى عبد الرزاق في (مصنفه)، وسعيد بن منصور في سننه، عن الإمام إبراهيم النَّخَعي، قال: قاتلت نساء قريش يوم اليرموك، حين رهقهم جموع الروم، حتى خالطوا عسكر المسلمين، فضرب النساء يومئذ بالسيوف، في خلافة عمر رضي الله عنه.وهذا حديث مرسل، فلم يشهد إبراهيم النَّخَعي عهد عمر، ولكن هذه الروايات تشتهر عادة بين أهل العلم ويتناقلها بعضهم عن بعض. وهي تؤكِّد ما ثبت بالروايات الموصولة.ومن الفقهاء: مَن كره الخروج بالنساء إلى أرض العدو، خشية أن يتعرضن لخطر القتل أو السبيْ ونحو ذلك، إلا أن يكون في جيش آمن.وهذا أمر يخضع لفقه الموازنات بين المصالح والمفاسد، فإن كان من وراء خروجهنَّ مصلحة أكبر من المفسدة المخوفة فلا بأس بخروجها، وإلا فلا. ولا سيما أن درء المفسدة مقدَّم على جلب المصلحة بصفة عامَّة.والذي أراه: أن الجهاد - بمعنى القتال - في الأصل ليس واجبا على النساء، لما يستلزمه من جهد وعبء ومشقَّة لا تحتملها المرأة في العادة الجارية، نظرا لما يعتري المرأة - بحكم الخِلقة - من الدورة الشهرية، ومن آلام الحمل، وأوجاع الوضع، وأثقال النفاس، وتبعات الإرضاع، ورعاية الأطفال، وهذا كله: لون من الجهاد تتحمَّله المرأة ولا يتحمَّله الرجل.ولكن من النساء مَن لا يقدَّر لها الزواج، ومنهن مَن لا يقدَّر لها الحمل والولادة، فينبغي أن تتاح لهنَّ فرصة المشاركة في الجهاد بما يناسبهنَّ.كما أن المهارات القتالية قد تتطلب لياقة بدنية خاصة، لا تتوافر غالبا لدى المرأة بمقتضى فطرتها الأنثوية. ص123ولهذا قلنا: إن المرأة طوال التاريخ لدى الأمم المختلفة في الشرق والغرب، قلما عُرَفت بالقتال، وكان اعتماد الجيوش دائما على الرجال.حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم وجد امرأة مقتولة في بعض الغزوات، فأنكر ذلك على الصحابة، وقال: "ما كانت هذه لتقاتل".ومعنى هذا: أن المرأة عند عرب الجاهلية لم تكن تقاتل، وإنما كانوا يصطحبون النساء معهم في بعض المعارك، كما فعلوا في أحد، لهدف آخر، وهو تحريض الرجال على القتال، وتحذيرهم من الجبن والتقاعس والفرار، ولهذا كن ينشدن في أحد: إن تقبلوا نعانقْ ونفرش النمارقْ أو تدبروا نفارق فراق غير وامق فهذا كان دور المرأة: الإغراء والتحريض.ولكن قد تحتاج الجيوش المقاتلة إلى أعمال تقدر عليها النساء، بل قد تحسنها أكثر من الرجال، مثل: التمريض والإسعاف للجرحى، والسقي للعطشى، والمناولة للسهام، وغير ذلك مما يدخل في باب الخِدْمات المساعِدة للجيش. وهذا ما فعلته نساء الصحابة في عهد النبوة. وهذه الأعمال المساعِدة قد تتطوَّع بها المرأة، وقد تجب عليها عند الحاجة إليها، فالمدار هنا على حاجة الجيش المسلم إلى المرأة، وعلى قدرة المرأة على المشاركة والمساعَدة، ويكون هذا من فروض الكفاية.دور المرأة في الحرب الحديثة: على أن هنا ملحظا ينبغي أن ننبِّه عليه، وهو أن الحرب الحديثة لم تعُد تقتضي من اللياقة البدنية، والقدرة على احتمال المشقَّات، ما كانت تتطلَّبه الحروب قديما. ص124 فمعظم الحرب الآن تعتمد على آليات ومعدَّات، يحتاج استخدامها إلى استعمال العقل أكثر من استعمال البدن، وهنا يمكن أن تقوم المرأة المدرَّبة المتعلمة مقام الرجل. وهذا ما جعل دولة العدو الصهيوني تستخدم في جيشها النساء بجوار الرجال.ونحن نعتقد أن المرأة المسلمة - بإيمانها وحماسها وشجاعتها - يمكنها أن تساهم في مساعدة الجيش المسلم المقاتل بأكثر من الإسعاف والتمريض، وقد رأينا من نساء فلسطين مَن يقدِّمن أنفسهنَّ فداء في عمليات استشهادية تُضرَب بها الأمثال.دور المرأة في جهاد الدفع: وقد فرَّق الفقهاء بين نوعين من الجهاد: جهاد الطلب، وجهاد الدفع.ففي جهاد الطلب، وهو الذي يغزو فيه المسلمون عدوهم، ويطلبونه في داره، لا يجب على المرأة الجهاد، ولكن تتطوَّع به احتسابا لوجه الله، وابتغاء مثوبته المضاعفة للمجاهدين.أما جهاد الدفع، وهو الذي يغزو فيه الأعداء أرض الإسلام، ويدخلون بلدا من بلاد المسلمين، ليحتلُّوها ويقهروا أهلها، فهنا يجب على أهل هذا البلد وجوبا عينيا: أن يدفعوا عن بلدهم، ويذودوا عن حرماتها، بكل ما لديهم من قوة، وما يملكون من وسائل، لا يتخلَّف أحد عن هذا الجهاد، كلٌّ بما يقدر عليه، فهذه حالة نفير عام. حتى قال العلماء: في هذا الجهاد يخرج الابن من غير إذن أبويه، وتخرج المرأة بغير إذن زوجها، ويخرج الخادم بغير إذن سيده، كما بيَّنا ذلك في موضعه. لأن الخطر هنا على البلد وعلى الجماعة، وإذا تعارض حق الجماعة وحق الفرد: قُدِّم حق الجماعة، لأن ببقائها يبقى الفرد، وبضياعها تضيع الأفراد.وهنا تكون فرضية الجهاد على المرأة، مثل فرضيته على الرجل، وإن كان ما يُطلب من المرأة في هذا الجهاد، قد لا يكون هو نفس ما يُطلب من الرجل، فإن الواجب على كل منهما أن يبذل ما يقدر عليه في دفع العدو حسب طاقته وإمكاناته. ص125والواجب أن ينظم أولو الأمر في مثل هذه الأحوال: الأعباء المطلوبة من كلٍّ من الرجل والمرأة، فإن فُرِض عدمُ وجود سلطة مسؤولة شرعا، فعلى جماعة المسلمين: أن يقوموا هم مقام ولي الأمر، وينظِّموا شؤونهم بأنفسهم، حتى لا يضطرب حبل الأمور، ويصبح الأمر فوضى لا زِمام لها، ولا خِطام. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم: الثلاثة إذا كانوا في سفر، أن يؤمِّروا عليهم أحدهم، حتى ينتظم أمرهم، ولا يَدَعوه فوضى. ص126 1- سبق تخريجه. 2- رواه مسلم في الإمارة (1909)، وأبو داود في الصلاة (1520)، والترمذي (1653)، والنسائي (3162)، وابن ماجه (2797)، ثلاثتهم في الجهاد، عن سهل بن حنيف. 3- رواه أبو داود في الجهاد (2608)، والطبراني في الأوسط (8/99)، والبيهقي في الكبرى كتاب الحج (5/257)، عن أبي سعيد الخدري، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود (2272).4- يُقرَأ اسم السورة الكريمة على وجهين: بفتح الحاء، أيْ: المرأوة الممتحَنة، إشارة إلى قوله تعالى: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة:10]، وبكسر الحاء، أيْ: السورة الممتحِنة، أيْ: التي تتضمَّن امتحان المؤمنين المهاجرات. 5- رواه أحمد في المسند (26195)، وقال مخرِّجوه: حديث حسن لغيره، وهذا إسناد ضعيف لضعف عبد الله وهو ابن عمر العمري، وأبو داود (236)، والترمذي (113)، كلاهما في الطهارة، وأبو يعلى في المسند (8/149)، والبيهقي في الكبرى كتاب الطهارة (1/168)، عن عائشة، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود (234). 6- معالم السنن للخطابي مع مختصر المنذري وتهذيب ابن القيم (1/161) تحقيق شاكر والفقي الطبعة الثانية تصوير المكتبة الأثرية بباكستان. 7- تسمَّى سورة (المجادِلة) بكسر الدال، أيْ: المرأة المجادِلة التي أنزل الله فيها هذه الآيات، كما تسمَّى سورة (المجادلَة) بفتح الدال، على معنى المصدر، أي المجادَلة التي وقعت بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلا المعنيين ينوِّه بمنزلة هذه المرأة.8- متفق عليه: رواه البخاري (2880)، ومسلم (1811) كلاهما في الجهاد والسير، عن أنس.9- رواه مسلم في الجهاد والسير (1812)، وأبو داود في الجهاد (2727)، والترمذي في السير (1556)، عن ابن عباس.10- فتح الباري (7/464) طبعة دار المعرفة بيروت. 11- رواه ابن سعد في الطبقات (8/415).12- انظر: سيرة ابن هشام (4/30)، وزاد المعاد (3/172)، والإصابة في تمييز الصحابة (8/266)، وصفة الصفوة (2/63). 13- رواه مسلم في الجهاد والسير (1809)، وأحمد في المسند (12058)، عن أنس.14- ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في ترجمتها في (الإصابة) ونقله من عدَّة مصادر، وعدَّة طرق (الإصابة: 4/349، 348). وقد قيل: إنها قتلته بعد أن جَبُن عنه حسان بن ثابت، الذي عرضت عليه أن يقوم فيقتله، قبل أن يدلَّ على عورات المسلمين، فقال لها: لقد عرفتِ ما أنا بذلك الرجل! حتى إنه جَبُن أن يأخذ سَلَبه بعدما قُتل! وفي البداية والنهاية لابن كثير (6/50): حكى السهيلي (الروض الأنف: 6/324) عن بعضهم أنه قال: كان حسان جبانا شديد الجُبن. قال: وأنكر آخرون ذلك، وطعنوا في الخبر، فقالوا: هو منقطع. قالوا: وقد كان يُهَاجِي المشركين من الشعراء، كابن الزِّبَعْرَى، وضِرار بن الخطاب، وغيرهما، فلم يُعيره واحد منهم بالجُبن. قال: وممَّن أنكر ذلك الشيخ أبو عمر (ابن عبد البر) النَّمَرِي (الاستيعاب: 1/384). قالوا: وبتقدير صحة هذا الخبر، لعله كان منقطعا في الآطام لعِلَّة عارضة. ومال إلى هذا السهيلي. والله أعلم. وانظر: الدرر في اختصار المغازي والسير ص186. 15- رواه البخاري في الجهاد والسير (2881)، عن عمر. 16- رواه البخاري في الجهاد والسير (2882)، والنسائي في الكبرى كتاب السير (5/277)، والطبراني في الكبير (24/276).17- رواه البخاري في الجهاد والسير (2883)، وأحمد في المسند (27016)، والنسائي في الكبرى كتاب السير (5/278)، والطبراني في الكبير (24/276)، عن الربيع بنت معوذ.18- انظر: فتح الباري (7/467) شرح حديث (2883). 19- انظر: سيرة ابن هشام (3/258).20- رواه البخاري في الأدب المفرد (1129)، وقال محققه: أخرجه البخاري في التاريخ، وصحَّح الحافظ سنده. أقول: صححه في ترجمة رفيدة في الإصابة (7/646). 21- الإصابة (4/303، 302) ترجمة رقم (424). 22- متفق عليه: رواه البخاري في الجهاد والسير (2788)، ومسلم في الإمارة (1912)، كما رواه أحمد في المسند (13790)، وأبو داود (2491)، والترمذي (1645)، والنسائي (3171)، ثلاثتهم في الجهاد، عن أنس. 23- رواه البخاري في الجهاد والسير (2875)، وأحمد في المسند (24422)، عن عائشة. 24- رواه البخاري في الجهاد والسير (2876)، عن عائشة. 25- رواه أحمد في المسند (9459)، وقال مخرِّجوه: إسناده ضعيف لانقطاعه، والنسائي في مناسك الحج (2626)، وسعيد بن منصور في فضل الجهاد (2/134)، والبيهقي في الكبرى كتاب الحج (4/350)، عن أبي هريرة، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح (3/475)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (2638).26- فتح الباري (7/460). 27- رواه مسلم في الجهاد والسير (1812)، وأحمد في المسند (20792)، وابن ماجه في الجهاد (2856)، والنسائي في الكبرى كتاب السير (5/278)، عن أم عطية. 28- رواه سعيد بن منصور في سهمان النساء (2788)، وصحَّحه الألباني في الرد المفحم (1/154).29- انظر: ترجمتها في (الإصابة) لابن حجر (4/234، 235) الترجمة رقم (58).30- رواه سعيد بن منصور في سهمان النساء (2787)، والطبراني في الكبير (24/157)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (6/128)، وابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق (173)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (69/32)، وقال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله ثقات (6/316)، وعند الطبراني وابن عساكر: "تسعة". 31- رواه عبد الرزاق في الجهاد (9676)، وروى عن ابن شهاب مثله (9674)، ورواه سعيد بن منصور في سهمان النساء (2768).32- انظر: الذخيرة للقرافي (3/404، 405)، والمغني (13/23). 33- رواه أحمد في المسند (15992)، وقال مخرِّجوه: صحيح لغيره، وهذا إسناد حسن، وأبو داود (2669)، وابن ماجه (2842)، كلاهما في الجهاد، وعبد الرزاق في أهل الكتاب (6/132)، وأبو يعلى في المسند (3/115)، والطبراني في الكبير (5/72)، والبيهقي في الكبرى كتاب السير (9/82)، عن رباح بن الربيع. 34- انظر: سيرة ابن هشام (3/72) بتحقيق السقا والأبياري وشلبي. طبعة دار إحياء التراث العربي. والسيرة الحلبية (2/225) طبعة دار إحياء التراث العربي. 35- قال الخطابي: إنما أمر بذلك، ليكون أمرهم جميعا، ولا يتفرَّق بهم الرأي، ولا يقع بينهم خلاف فيعنتوا. معالم السنن (3/414)، وانظر: (عون المعبود: 7/191)، والحديث سبق تخريجه.