(قلب المؤمن دليله) تُفهَم عند الناس على عِدَّة معان، بعضها صحيحٌ والآخر سقيم. ومن الأفهام السقيمة والمغلوطة لهذه العبارة: أن يعتمد الإنسان على ما يُقذَف في روعه من أفكارٍ وتصوُّراتٍ دون أن تكون مبنيَّةً على أمورٍ منطقيَّة، ويتصرَّف في أمور حياته، ويأخذ بناءً عليها قرارات، ويخطو خطوات. أمَّا المعنى الصحيح الذي يجب أن تُفهَم عليه، فهو أنَّ قلب المؤمِن الحقّ -وأضع خطوطاً عديدةً تحت عبارة (المؤمن الحقّ)- يدلُّه على الخير والشرّ، والصواب والخطأ، فيجعله يُقبِل على كلِّ ما هُو حَسَن، ويبتعد عن كلِّ ما هو قبيح. وتفسير ذلك أنَّ قلب المؤمن يكون مُعلَّقاً بالله عزَّ وجلّ، فهو في معيَّته سبحانه وتعالى وفي رحابه، يهتدي بهدى الله، ويسير بنور الله، مصداقاً لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم حكايةً عن ربِّه عزَّ وجلّ: ''وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبُّ إليَّ ممَّا افترضتُّه عليه، وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينَّه، وإن استعاذني لأعيذنَّه. ''رواه البخاري. وعن وابصة بن معبد رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ''جئت تسأل عن البِرِّ؟'' قلت: نعم. فقال: ''استفتِ قلبك، البرُّ ما اطمأنَّت إليه النفس، واطمأنَّ إليه القلب. والإثم ما حاك في النفس، وتردَّد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك''. لذا فالقلب الذي يكون دليلاً لصاحبه هو قلبُ مَن مثل وابصة في إيمانه وتقواه لله عزَّ وجلّ. من هذا نعلم أنَّ ليس كلُّ ما نشعر به في قلوبنا يكون صحيحاً إلا إذا شفت تلك القلوب وطهرت وصحَّت. ولكن ما صفات قلب المؤمن الذي يكون بحقٍّ دليله؟ ويقول العلماء: لا يصل القلب إلى أن يكون مؤمناً خالص الإيمان إلاَّ إذا وصل إلى معرفة الله معرفةً صافية، والإنسان بقدر معرفته بالله يزداد خضوعاً لأحكامه، وتطبيقاً لها، والتزاماً بها، وأخذا لها بقوَّةٍ. وينبغي لنا هنا من وقفة، فالصحب الكرام يعلِّموننا حقيقة مهمة وهي: ''كنا نؤتَى الإيمان قبل أن نؤتَى القرآن''. إنَّ غاية القلب التي تصل به إلى السلامة هي التعرُّف على الربّ، وهي ليست معرفة كتب العقيدة التي تملأ المكتبات الآن، والتي شُغِل بعضها بعلم الكلام دون أن يصبَّ تركيزه على حياة القلب بهذه العقيدة، فهي ليست معرفة العقل بوجود الإله، ولكن بأن يعرف قلبك الإله صفةً تِلْوَ صفة، فيحبُّه قلبك، ويخاف منه، وحينها يستسلم للتكاليف استسلام المحبِّ تارة، واستسلام الخائف تارة، وحينها فقط يكون القلب هو القلب السليم، الذي عرف الله وامتثل لتكاليفه، ولكنَّنا اليوم قد نجد من يؤدُّون التكاليف إمَّا لأنَّهم يجب عليهم أن يؤدُّوها، أو من باب أنَّهم اعتادوا ذلك، ولكن القليل هم الذين يؤدُّون العبادة؛ لأنَّها طريقهم إلى القلب السليم، ولأنَّها الطريق لمعرفة الله. إنَّنا كثيراً ما نتحدَّث عن إقدام الصحابة، وتضحيات الصحابة، وأفعال الصحابة، ولكنَّنا ننسى تلك القلوب التي كانت سبباً في هذا كلِّه، وما قصة ''يا سارية الجبل'' عنَّا ببعيد، فالفاروق عمر رضي الله عنه لم يكن في المعركة، إلا أنَّ الله يريه موضع سارية، فيحذِّره، فيسمع سارية صوته وهو في ساحة القتال، سبحان الله، قائد المعركة لم يتنبه لذلك، وتنبَّه للجبل مَن لا يرى الساحة التي تُدار فيها المعركة، ولا شكَّ أنَّ سارية أيضاً سليم القلب، حيث يصله صوت عمر رضي الله عنه. والقلب إذا صفا سما بصاحبه، فإذا به يستعذب القرآن، ويستمتع بالعبادة، ويتلذَّذ بالطاعة، ويكون الله ورسوله أحبَّ إليه ممَّا سواهما، أمَّا إذا ارتكس حتى يكون كالكوز مُجَخِّياً فإنَّه آنذاك لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أُشرِب من هواه، وهو حينئذٍ يهوي بصاحبه، فلا يستعذب طاعة، ولا يعرف للخشوع معنى، ولا يتلذَّذ بصلاةٍ ولا قرآن، وما لم تتدارك رحمة الله صاحبه يهلك. وقد ذكر الإمام ابن القيِّم رحمه الله علاماتٍ لصحَّة القلب، منها: أنَّه يدفع صاحبه للتوبة والإنابة، ولا يفتر عن ذكر ربِّه، ولا يفتر عن عبادته، وإذا فاتته عبادة، وجد ألماً أشدَّ من فوات ماله، وأنَّه يجد لذةً في العبادة أشدَّ من لذة الطعام والشراب، وأنَّه إذا دخل في الصلاة ذهب همُّه وغمُّه في الدنيا. وذكر أيضاً علاماتٍ لمرض القلب وخبثه، وعدم صلاحيَّته للاحتكام إليه، منها: أنَّه لا تؤلمه الذنوب والمنكرات، وأنَّه يجد لذةً في المعصية وراحةً بعدها، وأن يقدِّم الأدنى على الأعلى، فيهتمَّ بتوافه الأمور على حساب شؤون الأُمَّة، وأنَّه يكره الحقَّ ويضيق صدره به، والوحشة مع الصالحين والأُنس بالعصاة، والخوف من غير الله، وأنَّه لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً ولا يتأثَّر بموعظة. وبهذه المقاييس نستطيع أن نقيس مدى صفاء قلوبنا وشفافيتها، وصلاحيَّتها لننظر من خلالها للأمور، أيِّ أمور. ومن وسائل إصلاح القلوب السقيمة والوصول بها إلى الشفافية والصحة: التوبة النصوح، وقراءة القرآن بتفكُّر، وذكر الله تعالى، والصيام، وقيام الليل. وأخيرا، أدعو الله عز وجل أن يطهِّر قلوبنا، وأن يصلح أعمالها، وأن يلهمنا الصواب والحكمة، وأن يملأ قلوبنا بنوره، ويبصِّرها بالحقِّ والخير، حتى تصير كما قال الشاعر: قلوب العارفين لها عيونٌ..... ترى ما لا يُرَى للناظرينا وأجنحةٌ تطير بغير ريشٍ..... إلى ملكوت ربِّ العالمينا.