صفة الرحمة، لها وقع جميل على النفس، تجعلها تميل للهدوء والسكينة، ودائما ما نصف كل إنسان رقيق القلب بأنه إنسان رحيم، ولهذا فإن للرحمة شأن عظيم عند الله، أختص نفسه بكل مشتقاتها، فهو الرحمن الرحيم الراحم، ولهذا جاء حديث الرسول صلى الله عليه وسلم مؤكدا ذلك، ومبشرا لنا، فقال: (قسمت الرحمة إلى مائة جزء، أنزل الله إلى الأرض منها جزءا واحدا، واحتفظ عنده بتسعة وتسعين جزءا، حتى أن الدابة ترفع حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه). حقا إنها بشارة عظيمة لنا جميعا، يحق لنا أن نسعد بها ونفرح، لأن الله ادخر لنا رحمات كثيرة، لذنونبنا الأكثر، ومن هذا الجزء الذى أنزله الله لعباده، عدم القنوط من رحمته، ربما يسأل سائل، هل عدم القنوط رحمة من الله؟ نعم، فأنت إذا وجدت باب الله مفتوحا أمامك، وقد فعلت المعاصي والذنوب الكثيرة، فى أي وقت يمكنك الدخول دون عناء ومشقة، أليست هذه رحمة واسعة. ويؤكد الحق ذلك بقوله: {ورحمتي وسعت كل شيء}، الأمر الآخر وما به من رحمة كبيرة، نجد أن الله سبحانه وتعالى قد أمر رسوله الكريم بأن يكون هذا الأمر لمن أسرفوا فى معصية الله، بدعوتهم إلى عدم القنوط من رحمة الله، وهذا أمر عجيب، يملأ القلب حبا لهذا الرب الرحيم، فهو لم يوجه الدعوة لعباده المؤمنين به، هذا لأنهم بالفعل ينعمون برحمة الله، فهدايتهم رحمة من الله، ولهذا فأنهم فى شكر دائم، وفي عدم قنوط دائم من رحمة الله، فلو فعلوا ذنوبا واستغفروا الله، يجدوه غفورا رحيما، وهو معهم أينما كانوا، ولهذا فإن الله يوجه دعوته بعدم القنوط من رحمته، لمن أسرف في عصيانه، ولمن ظن أنه هالك لا محالة، ولذلك نجد الله دائما ما يدعو عباده بالتوبة والعودة إليه، فهو يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن كثير، التوبة والعفو رحمة من الله، ولهذا إذا كان الله سبحانه يدعو من أسرف إلى عدم القنوط من رحمته، فما بالك بمن لا يسرف. ربما يسأل من لا يسرف أين رحمة الله؟ نجد أن الله سبحانه وتعالى قد أجاب عن ما سوف يدور فى عقل من يطيعه، فيقول الحق {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}.. [الأعراف : 56]، وقرب رحمته من عباده نراها فى السكينة والرضى بما قسم الله، ونراها فى عطاءته التي لا تحصى ولا تعد، فعطاء الله لا يقتصر على مال نحصل عليه نظير عمل نقوم به، بل عطاء الله يمتد إلى كل شىء، فعندما نكون فى صحة وعافية، هذا عطاء من الله لا يعرفه إلا من ابتلاه الله بالمرض، شفى الله كل مريض، ونعمة الأمان عطاء من الله، ونعمة البصر عطاء من الله، ونعمة الرضى والشكر عطاء من الله، ولذلك نجد الرسول الكريم يقول في معنى الحديث (من بات آمنا فيى سربه، معافى في بدنه، معه قوت يومه فقد حيزت له الدنيا). الذكر طريق الفلاح وذكر الله وعدم القنوط من رحمته عطاء منه، فقد قال سبحانه {ألا بذكر الله تطمئن القلوب}، نعم في لحظة نظن فيها أن كل شيء قد أغلق، ونظن أننا في عسر دائم، هنا يتوقف اللسان والقلب، وعندما يحدث ذلك لابد أن نبحث عن شيء فقد، لابد أن الوقود قد نفد، تماما كحال السيارة عندما ينفد وقودها، تقف مكانها قطعة من حديد، فلا تستطيع التحرك، فنذهب سريعا لإحضار الوقود الذي يحركها من مكانها، ولذلك فأن وقود القلب واللسان هو ذكر الله، فى أحلك اللحظات، عندما نرطب لساننا بذكر الله، يتحرك القلب، ويطرد الخبث والران الذي علق به، فينشط الأنسان، وتزداد حركته إلى الخير، وتتفتح أمامه ما أغلق من أبواب، لأن الران قد أزيل، فخف الحمل على القلب ثم على باقى أعضاء الجسم، وينطلق الوقود إلى كل جزء فى الجسم، ويتحرر الإنسان من أغلال الهم والحزن، لأن الهم والحزن يغلان الإنسان، فتشل حركته، ويصاب بالخمول والكسل. بالتأكيد كل منا مرت عليه أوقات عصيبة، أصيب فيها بالهم والغم، وأثقل قلبه بهما، فتتعطل حركة حياته، وهذا أمر طبيعي لأننا بشر، ولسنا ملائكة، فكلنا يخطئ، وخيرنا من يسارع إلى تصحيح خطأه، فأن كانت حقوق لأحد أرجعها، وأن كان حق من حقوق الله سارع إليه وقام به، ومن العجيب أن حقوق الله ليست بالشيء العسير، وليست أموالا طائلة سوف نتعب فى ردها، ولكنها غاية في اليسر والسهولة، وهذا من عطاء الله وفضله لعباده، ومن رحمته التي وسعتنا. فلو ضيعت صلاة مثلا، ما عليك إلا أن تقوم وتتوضأ وتؤدي ما عليك، ولو كان صياما لأيام فاتتك من شهر رمضان لسبب قهري، تقضيها بعد زوال السبب، وإن كان ذنب، فما عليك إلا أن تستغفر، وستجد الله توابا رحيما، وهو يقول لنا {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن كثير}، ويؤكد لنا الله على يسر حقه، وأنه سوف لا يكلفنا فوق طاقتنا، فيقول {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} وفي موضع آخر نجده سبحانه قد بين لنا الحقيقة كاملة من وجودنا، فيقول تعالى {وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون * ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون * إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين}. سبحانك يارب، أعطيتنا أشياء لا تحصى ولا تعد، ولا تطلب منا الكثير، لا تريد منا إلا أن نعبدك على حق فقط، ولا يقتصر معنى العبادة على العبادات المعروفة، بل هو شامل لكل حركة وسكنة من حياتنا، في معاملاتنا مع الناس، فى أعمالنا نؤديها بإتقان، في طلبنا للعلم، في كل شيء، وهذا من رحمته سبحانه، أن لا نترك أمرا فيه خير إلا فعلناه، ولا نقنط من رحمته أبدا. لأن القنوط يعني التوقف عن الحركة في حياتنا وما يترتب على ذلك من تضييع حقوق أهلك والناس جميعا، سبحانه وتعالى ذكره رحمه، وشكره رحمه، فنسأله أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.