بقلم: الأستاذ حسن خليفة قد نتفق وقد نختلف في تعريف وتوصيف مفهوم (التخلف) فهو شأنه شأن الكثير من المفاهيم الاجتماعية والإنسانية والفلسفية الخاضعة لمعايير ومعطيات مختلفة حين العمل على (تعريفها) وتحديد تصوّرات خاصة بها يجد المهتمون صعوبات في التحديد والتدقيق العلمي بشأنها. وعليه فإنني أتصور أن الأفضل أن نتجه إلى الجانب الإجرائي العمَلي ونتحدث عن (التخلّف) في أبسط وأوضح تعريفاته. يمكن القول أن التخلف هو (أن يوجد الإنسان/أو المجتمع في حالة ارتكاس وتأخرتمنعُه من أن يكون في المستوى الإنساني المطلوب). وهذه هي بالضبط حالتنا في راهننا الاجتماعي والقيمي والإنساني. لدينا الكثير من الإمكانات والمقدّرات والثروات والموارد ولكننا نعاني من حالة (تخلّف) نكاد نجمعُ عليها كجزائريين ويتصل هذا التخلف بكثير من مناحي حياتنا ونشاطنا وعملنا وأوجه عيشنا وسلوكنا ومن هذا المنطلق أريد أن أقول إن التخلف لا يتصل بالضرورة بالنقص في الجانب المادي كما أنه لا يتصل بالجانب المعرفي والعلمي فكم من أشخاص لديهم إمكانات مادية كبيرة ولكنهم في مراتب تخلّف وضيعة من حيث أسلوب تفكيرهم ونمط سلوكهم وطرائق عيشهم وكم من أشخاص لهم كمّ معرفي كبير في شكل شهادات ودبلومات وربما مناصب ومواقع قرار ولكنهم في أدنى درجات الإنسانية والأخلاق ولا يملكون (سُلّم قيم) في الأساس يصدق هذا على كثير من بني البشر في شتى بقاع الأرض وبطبيعة الحال عندنا نحن أيضا في مجتمعنا. ما قيمة أن يمتلك الإنسان الكثير في الجانب المادي والمعرفي /العلمي ولكنه يكذب ويخدع ويغش ويسرق وينافق ويأخذ ما ليس له. وما قيمة أن يكون في موقع قرار ومسؤولية وهو لا يشعر بغيره ولا يتفاعل مع مرؤوسيه ولا يحس بهم ولا يهتم لمشكلاتهم ومعاناتهم. ما شأن الإنسانية بأشخاص هم أقرب إلى الوحوش الكاسرة بلا قلوب رحيمة ولا مشاعر طيبة رقيقة ولا شعور إنساني رفيع وحينئذ ما قيمة ما يمتلكون إن كان لا ينفع (الإنسان) فيهم في قليل أو في كثير. وهذا هو المشاهد والملموس في حياتنا وواقعنا وما هذه الفجوة التي تتفاقم بين البشر وتميّز بينهم سوى دليل دامغ على أن الرقي والتأخر لا صلة لهما بالمادة والمال والجاه والمنصب والرفعة(الدنيوية) المزيّفة. ليس اللباس الجميل والهندام المنظم البراق غالي الأثمان هو من يصنع الرقي؟ وليس الإمكان المادي والمالي والعقاري والأملاك المختلفة هي من يُعلي من شأن شخص فيجعله متقدما ومتحضرا وراقيا وليس المنصب الرفيع والمسؤولية السامية هي من يجعل الإنسان أثقل في ميزان التقدم والرقيّ والسموّ الإنساني بل على العكس من ذلك تماما قد تجد شخصا متواضعا في علمه وثقافته ولكنه راق في سلوكه وفهمه للحياة وعيشه الطيب الكريم وقناعته وابتهاجه بالحياة إقبالا وسعادة. وقد تجد شخصا لا يملك مالا ولا أملاكا ولكنه أسعد وأهنأ ما يكون لقناعاته السليمة وأفكاره الجميلة عن الحياة والموت والإيمان والعيش الكريم وهناك تاريخ إنساني طويل في هذا الشأن رُفع فيه أقوام بقيّمهم السامية رغم افتقارهم إلى كثير من المستلزمات الأخرى وخُفض فيها أقواما وأفراد إلى مادون مستوى البهيمة العجماء بالرغم من امتلاكهم لكل المقدّرات. التخلّف هو الارتكاس في إنسانية الإنسان والتراجع البشع في منسوب الرحمة والحنان والأخلاق في حياته.التخلّف هو أن يرتهن الإنسان لنزواته ولا يرى ولا يعبد إلا ذاته التي تتضخم حتى تنفجر سوءا وأذى وشهوات وأنانية وبغضا وكراهية و.... التخلف هو أن يتخلى الإنسان عن أجمل ما فيه بالذات عن الأمور الأساسية التي تجعله (إنسانا) وهي القيّم والضوابط والمبادئ التخلف هو أن يطفئ أي إنسان منا الشموع الجميلة في قلبه وروحه فيصبح في (ظلمات) لا أول لها ولا آخر. التخلف حالة ارتكاس ونكوص تجعل الإنسان يؤثر الضار على النافع ويقدم الأولى على الآخرة وينسى نفسه وربّه ودينه وأشواقه الجميلة التي تعلو به وتسمو بذاته وتعزز حقيقة (تكريمه). هناك الكثير مما يمكن أن يُقال في شأن التخلف...ولكنني آثرتُ أن أنحو هذا النحو الأدبي الإنشائي تعبيرا عن أهمية المباديء والتربية ومنظومة القيّم والتعالي الأخلاقي وأن ذلك هو المطلوب للخروج من دائرة التخلف المميتة القاتلة ولو طبّقنا هذا الأمر لوجدنا الإنسان لدينا في مجتمعنا في جزء كبير من شرائحه وفئاته بعيدا عن (الرقي) مرتكسا في وحل التخلف ما يجعله أقرب إلى الكائنات الغابية منه إلى عالم الإنسان.. ونحتاج جميعا بعمل كبير وترشيد وإذكاء وعي وإحياء قيّم وتحفيز إلى الارتفاع إلى المستوى الإنساني الراقي. وذلك واجب المثقفين وقادة الرأي والمصلحين والدعاة والعلماء والقادة الراشدين..