ما الذي يقولهُ ميثاق الصومامِ عن الوحدةِ المغاربيةِ ؟ بقلم: فوزي حساينية ** الجزء الأخير وكل من يريد أن يفهمَ حق الفهم مؤتمر الصومام - وبخاصة بعده المغاربي- لابد وأن يتصدى بالدراسة والتمعن في الهجومات المجيدة للشمال القسنطيني في 20 أوت 1955 فهذه الهجومات التي هي من أفكار القائد الشهيد يوسف زيغود لم تُحطم فقط أحلام الغزاة الفرنسيين في القضاء السريع على ثورة نوفمبر والاحتفاظ بجوهرة مستعمراتهم وما يعنيه ذلك من استمرار الهيمنة على إفريقيا بل أكدت بجرأة ثورية نادرة تضامن الثورة الجزائرية مع الشعب المغربي الشقيق في الذكرى الثانية لنفي السلطان الراحل محمد الخامس ودعم الثوار المغاربة في وادي زم وخريبكة إيمانا بوحدة المعركة المغاربية ضد الاستدمار وحلفائه وقد علَّق ونستون تشرشل السياسي البريطاني المعروف على هذه الهجومات بقوله: (إن التحدي الذي أظهرهُ الجزائريون أخيرا قد بينَ للفرنسيين أنه سيكون امتحانهم الأكبر ورأيي الشخصي هو أن تعيد فرنسا احتلال كل من المغرب وتونس !) والواجب يقتضي منا أن نُذَكِّرَ بأن من بين الأهداف الأساسية لهجومات الشمال القسنطيني إحباط أي محاولة تقوم بها هذه الجهة أو تلك للتقرب من الإدارة الإستدمارية واستغلال ارتباكها لتحقيق مكاسب سياسية خاصة على حساب الرجال الذين يقاتلون في الجبال وبمعنى أكثر تركيزا فقد رمت هذه الهجومات إلى قطع الصلة بين الإدارة الاستعمارية وجماهير الشعب ومن يريد أن يفهم فضل هجومات الشمال القسنطيني في هذا الصدد فما عليه إلا أن يقرأ ما كتبه الدكتور محمد العربي الزبيري في الجزء الثالث من كتابه تاريخ الجزائر المعاصر الصفحة 160 .. و هناك شرائح واسعة من الشعب الجزائري ظلت موالية للنظام الاستعماري وتتعامل معه بكل ثقة إلى أن تأكدت من عجزه عن حمايتها ولاحظت أنه اعترف لجبهة التحرير بحق تقرير المصير على أساس الاستقلال الوطني.. ولا شك أن المغزى بات واضحاً فالوصول إلى تجسيد الوحدة المغاربية يحتاج اليوم إلى مفكرين وساسة ومناضلين يعرفون كيف يُعدونَ ويُطلقون دوامة الإقلاع الوحدوي بما يجعل من المد الوحدوي تياراً جارفاً مُهيمناً لا يترك مجالا للمترددين واللامبالين وعندها فقط ستلتحق الجماهير كتلة بعد كتلة وجماعة تلو جماعة بمسيرة الوحدة المغاربية المنشودة وستجرفُ معها بقايا النخب المُتكلسةِ والمُتمترسةِ وراء أسوار الحكمة الزائفة وإدعاءاتها السياسية المتهالكة هذا هو الدّرس الذي نتعلمهُ من تلك المبادرة التاريخية الفريدة للقائد يوسف زيغود في 20 أوت 1955 والتي زكاها- رغم كل شيء- مؤتمر الصومام في 20 أوت 1956. وما نخلص إليه أن ميثاق الصومام وهو يتوقف عند قضايا الشمال الإفريقي وينص على مسألة الوحدة المغاربية لم يكن ينطلق من فراغ أو يقف على أرضية خواء بل كان يستند على ويستوحي تراثا وحدويا مغاربيا عريقا نابضا بالحياة وزاخرا بالأمل العميق في غد تحرري وحدوي مغاربي ولاشك أن هذه الأمثلة والمواقف الوحدوية المغاربية الحية السابقة عن مؤتمر الصومام تُرينا نوع ومدى وطبيعة الهمَّة السياسية واليقين الفكري والإيديولوجي الذي تولدت عنه تلك الرؤية المشرقة لواقع ومستقبل الوحدة المغاربية كما عبَّرَ عنها ميثاق الصومام قبل ستين سنة فلم يكن الأمر يتعلق بموقف ظرفي عابر بل بموقف مبدئي أصيل متجذر. وهو ما ينبغي أن يكون محور تفكير وعمل المثقفين والسياسيين في مختلف الدول المغاربية إن هم أرادوا حقا أن يقدموا مساهمة حقيقية في سبيل وحدة وعظمة مغرب أجدادنا. ولكن ما الذي قاله ميثاق الصومام عن مسألة الوحدة المغاربية ؟ أو كما تساءلنا أعلاه إلى أي مدى اهتم ميثاق الصومام بقضية الوحدة المغاربية ؟ الواقع أن هذا المؤتمر بقدر ما كان مؤتمرا خاصا بإعادة تنظيم شؤون الثورة الجزائرية كان وبنفس القدر مؤتمرا للوحدة المغاربية وهذا أمر بالغ الوضوح ويتوزع بشكل جلي على مختلف الفقرات التي يتكون منها ميثاق- أرضية - الصومام فالهمُ المغاربي عسكريا وسياسيا وإعلاميا ومستقبليا كان ملحوظا بقوة فتحت عنوان: الإستراتيجية الاستعمارية الفرنسية نقرأ ..كما أن ضغط الثورة الجزائرية دفع فرنسا إلى تغيير موقفها الرسمي إزاء استقلال المغرب ولجأت إلى البحث عن حل سريع لهذه القضية للأسباب التالية: - الحيلولة دون وقوع جبهة موحدة جديدة بين المقاومة المسلحة بالريف المغربي والجزائر. - القضاء نهائيا على وحدة كفاح الأقطار الثلاثة في المغرب العربي.. وبعد ذلك يُنبه الميثاق إلى حقيقة أن حل المشكلة التونسية والمغربية ما هي إلا خدعة استعمارية إذ أنه متى كانت الأوضاع الدولية مناسبة فلن تتأخر فرنسا في إعادة احتلالهما... وبنظرة ثاقبة إلى المستقبل القريب والبعيد وتحت عنوان اتحاد الشمال الإفريقي يدعو ميثاق الصومام إلى ضرورة العمل على بناء اتحاد مغاربي يجد تبريره في العوامل الكثيرة المشتركة التي تتوفر عليها المنطقة يتطلع أبناء الجزائر المستقلة إلى التضامن الضروري الطبيعي بين بلدان المغرب العربي الثلاث لأنها مجموعة كلية تؤلفها الجغرافيا والتاريخ واللغة والحضارة والمصير لذا يجب أن يُسفر هذا التضامن عن تأسيس اتحاد الدول الثلاث وتقتضي مصلحتهم أن تبدأ بتنظيم دفاع مشترك ونشاط دبلوماسي مشترك وخطة مشتركة في التجهيز والتصنيع وسياسة نقدية مشتركة والتعليم وتبادل الأركان الفنية والاختصاصية والمبادلات الثقافية واستثمار مخبئات الأرض والنواحي الصحراوية لكل بلد. وهكذا يسجل مؤتمر الصومام أن الوحدة المغاربية تتوفر على عوامل طبيعية (الوحدة الجغرافية) وعلى مقومات ثقافية (التاريخ واللغة والحضارة) وعلى وحدة المآل المستقبلي (وحدة المصير) ثم يضع ما يشبه البرنامج المفصل الذي يمكن الاهتداء به في بناء مختلف جوانب المشروع المغاربي بعد استرداد الجزائر لاستقلالها الوطني والتي يتصدرها الدفاع المشترك والنشاط الدبلوماسي المنسق وذلك بحكم المخاطر والتحديات المباشرة والآنية التي كانت تواجهها المنطقة المغاربية في 20أوت سنة 1956تاريخ انعقاد مؤتمر الصومام مثل خطر القضاء على الثورة الجزائرية أو إجهاضها الوجود الفرنسي الكثيف في المغرب وتونس رغم إعلان استقلال البلدين الدعم الغربي المتصاعد للحرب الاستعمارية الفرنسية في الجزائر..الخ. أما دعوة الميثاق إلى وضع خطة في التجهيز والتصنيع المشترك وسياسة نقدية وتعليمية واستثمارية مشتركة فهي خطوات ضرورية لكل تجربة وحدوية يملك روادها رؤية متكاملة وإرادة حقيقية لتجاوز أوضاع التجزئة وبناء أوضاع وحدوية جديدة مكانها. ولأن المجتمعين في مؤتمر الصومام كانوا يدركون جيدا أن الثورة الجزائرية لا تزال أمامها سنوات طويلة شاقة من الكفاح والتضحيات لإجبار الدولة الاستدمارية الفرنسية على التسليم بحق الجزائريين في تقرير مصيرهم على أساس استرداد الاستقلال الوطني فقد عاد الميثاق إلى الحديث عن ضرورة تعزيز جهود الاتصال والتنسيق والتعاون بين الدول المغاربية والثورة الجزائرية فتحت بند تضامن الشمال الإفريقي يؤكد الميثاق على أن جبهة التحرير الوطني مطالبة بتشجيع: 1- تنسيق عمل حكومتي تونس والمغرب للضغط على الحكومة الفرنسية. 2- تكوين لجنة للتنسيق بين الأحزاب الوطنية للبلدين مع جبهة التحرير الوطني وإنشاء لجان شعبية في البلدين لمساندة المقاومة الجزائرية. 3- الاتصال الدائم بين الجزائريين المقيمين في تونس والمغرب. 4- التضامن بين المنظمات النقابية للشغل في الدول الثلاث. 5- التضامن بين الاتحادات الطلابية الثلاثة. وفوق هذا لا نستطيع إلا أن نتأمل فيما امتاز به المؤتمرون في الصومام من ذكاء وبعد نظر فهم لم يكتفوا بأن يأخذوا بعين الاعتبار العمل للحصول على تأييد الدول والشعوب الأسيوية والإفريقية والأوربية إلى جانب دول وشعوب أمريكا اللاتينية بل إنه حتى الجاليات العربية الموجودة في أمريكا اللاتينية تم وضعها في الحسبان وبتعبير الميثاق (الاعتماد على العرب المهاجرين إلى أمريكا اللاتينية) فالقضية إذن هي تحرير الجزائر والعمل على توحيد المنطقة المغاربية لكن مع الوعي بأن دوائر التحرك يجب أن تتسع لتشمل العالم كله فمن خلال المزاوجة بين خصوصية القضية وعالمية الانتشار يتحرك التاريخ. وهكذا يتضح أن الوحدة المغاربية ليست قضية هامشية أو محطة عارضة في ميثاق الصومام بل يمكن القول عندما نتعمَّقُ في التحليل أن مؤتمر الصومام كان إلى جانب بيان أول نوفمبر ومؤتمر طنجة (أفريل1958) أكبر انتصار للفكرة المغاربية منذ سقوط دولة الموحدين العتيدة لكن ما يثير الحزن والدهشة أن شرائح واسعة من الجزائريين ومنهم الكثير من الشباب لا يعرفون أصلا أن ميثاق الصومام قد دعا بحرارة استثنائية إلى الاضطلاع بوحدة الشمال الإفريقي ! فمن هو المسؤول عن تغييبِ هذا المشروع الوحدوي العظيم عن نظرِ الأجيال المغاربية الصاعدة ؟ ومن يملكُ الجرأة على أن يتحمل مسؤوليته في هذا الصدد؟ الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي واحد من الذين أقروا بفشل جيله في ترسيخ مبادئ نوفمبر في وعي الأجيال الصاعدة ولاشك أن فكرة الوحدة المغاربية تأتي على رأس المبادئ التي جرى التفريط فيها وهو وضع ينبغي تصويبه بكل وسيلة ممكنة إذ أنه لا يوجد أمامنا كمغاربيين ولا يمكن أن يوجد أبداً بديل عن الوحدة المغاربية والبديل الوحيد في الواقع هو اللا بديل أي استمرار أوضاعنا الهشة الغامضة والحُبلى بالاحتمالات المؤلمة ولذلك نعيد التأكيد على أن الوحدة المغاربية هي بديل بلا بديل فكرة لا يوجد نظيرها ومشروع لا يمكن تعويضه أو تجاوزه إلا للسيرِ نحو الهاوية والمسؤولية تعود إلينا لكي نقرر. ومن المتوقعِ أن يستفسر البعض عن السر في الإشارة المتكررة إلى عبارة الأقطار الثلاثة كما جاء في بيان أول نوفمبر والأقطار الثلاثة في المغرب العربي وبلدان المغرب العربي الثلاثة كما جاء في وثيقة الصومام أين باقي أقطار الاتحاد المغاربي كما نعرفها اليوم ؟ والجواب واضح وبسيط فالمنطقة المغاربية تم غزوها واحتلالها من قبل قوى أوربية متعددة إيطاليا في ليبيا فرنسا في تونسوالجزائر والمغرب وموريطانيا وإسبانيا في شمال المغرب والصحراء الغربية وقد عملت كل دولة أوربية على إخضاع وعزل الجزء الذي تحتله عن سائر أرجاء المغرب الكبير كما تأسس حقا في التاريخ وهكذا ولعدة عقود من الزمن أُختُصِرَ وأنْحصرَ مفهوم الشمال الإفريقي ليرمز لكفاح الحركة الوطنية في الدول الثلاث بسبب اشتراكها في لعنة الإستدمار الفرنسي أما موريطانيا ورغم خضوعها هي أيضا للفرنسيين إلا أنها كانت تعيش ملابسات سياسية واجتماعية خاصة أخرت انخراطها إلى جانب تونسوالجزائر والمغرب لغاية استقلالها سنة 1960 في حين أن ليبيا كانت قد استردت استقلالها سنة 1951 بعد نجاتها من مخططات التقسيم الغربية وخاصة رغبة فرنسا في السيطرة على إقليم الفزَّان لكن المهم في بيان نوفمبر ومؤتمر الصومام هو التأكيد والإلحاح على فكرة الوحدة المغاربية في ذاتها أما المدى أو الحَيِّزْ الجغرافي لهذه الفكرة فقد تحدد فيما يُعرفُ اليوم بدول الإتحاد المغاربي الخمس في انتظار تقرير الشعب الصحراوي لمصيره والتحاقه بالاتحاد لينطبق الواقع السياسي المغاربي مع واقعه الجغرافي كما الحال زمن الدولة الموحدية المجيدة. بقي أن نتساءل هل قضية الوحدة المغاربية في ميثاق الصومام مسألة تجاوزها الزمن وأصبحت جزءا من الماضي؟ أم أن ميثاق الصومام في بعده المغاربي لا يزال قادراً على الإلهام والعطاء؟ أوضحنا سابقا أن ميثاق الصومام لم يكتفِ بالإشارة إلى مسألة الوحدة المغاربية بل تناولها بأشكال مختلفة وأكد عليها باعتبارها قضية مركزية وهدفا رئيساً من أهداف الثورة الجزائرية والميثاق في هذا يتفق تماما مع بيان أول نوفمبر. وإذن فنحن أمام استمرارية إيديولوجية مضمونها حتمية القضاء على التجزئة في المنطقة المغاربية بما يقودنا إلى إعادة توحيد مغربنا الكبير كما وَحَّدَهُ أجدادنا الفاطميون والموحدون في العهود الماضية وفقط عندما نُنجز وحدة المغرب الكبير نكون قد أتممنا رسالة شهداء نوفمبر ولذلك فإننا إذ نحتفل اليوم بأول نوفمبر أو بمؤتمر الصومام إنما نحتفل بنصر غير مكتمل وبعهد لم نُنْجِزهُ ويبقى القول بأن أهمية دراسة تاريخ مؤتمر الصومام تكمن في أنَّه يُظْهِرُ لنا أن معظم الأسئلة حول قضية الوحدة المغاربية قد طُرحت من قبل وأن الكثير من الإجاباتِ الذكيةِ عنها قد قُدِمتْ بالفعل في فترات سابقة وبذلك نَخْلُص إلى أنّ أرضية أو وثيقة الصُومام هي ميثاق الزمنِ الراهنِ والمستقبل المغاربي الزاحفِ وليست تاريخاً محضاً أو صورة شمسية شاحبة عن زمن انقضى.