الوحدة المغاربية .. أو الدمار* بقلم: فوزي حساينية* يشهد الواقع الدولي تحولات هائلة مطبوعة بالتنافس والصراعات الاقتصادية والإيديولوجية الشرسة وإذا كان من الصعب التنبؤ بالمسارات التي قد تسلكها التطورات الراهنة فإنه من السهل جدا أن نلاحظ أن الدول الكبرى والقوى الصاعدة لم تدخر وسعا في الاستعداد لكل الاحتمالات ولكن ما الذي يمكن قوله أو اقتراحه عندما يتعلق الأمر بالتساؤل عن موقع المغرب العربي من تحولات القرن الجديد؟ إن أول ما يجب قوله في هذا الصدد أن هناك مجموعة من الأفكار والقناعات الأساسية التي لابد من التوقف عندها باعتبارها المرتكزات الأساسية والمنطلق الصحيح لأية قراءة جادة في مستقبل وموقع المغرب العربي من تحولات القرن الجديد ويمكن إيجازها في العناصر التالية: أولا: إن القرن الواحد والعشرين سيكون قرن الوحدة المغاربية الكبرى ونقطة تحول حاسم وجذري في المفاهيم والأوضاع الدولية والمقصود بالوحدة المغاربية الكبرى كل الدول التي تشكل المنطقة المغاربية بالإضافة إلى مدينتي سبتة ومليلة المحتلتين وجزر الكناري في المحيط الأطلسي والتي هي جزء لا يتجزأ من مغربنا الكبير وسيطرت عليها إسبانيا في القرن الخامس عشر الميلادي بعد أن تمكنت من سحق مقاومة (الغوانش) وهم السكان الأصليون لجزر الكناري وتعود جذورهم إلى شمال إفريقيا. ثانيا: إن التجزئة السياسية الراهنة هي العقبة الأساسية التي تقف حائلا دون انطلاق المغرب العربي الكبير إلى المجال الدولي بالكيفية التي تتناسب مع إمكانياته المادية والبشرية. ثالثا: يترتب على العنصرين السابقين أن النضال من أجل تجاوز محنة التجزئة والوصول إلى توحيد مغرب أجدادنا هو أشرف وأقدس نضال يمكن للمثقفين والساسة المغاربيين خوضه اليوم بحيث أن أي مشروع ثقافي أو سياسي لا يأخذ هذه الحقيقة بعين الاعتبار سيكون تنظيرا للفشل وتكريسا للإخفاق لا أكثر. رابعا: إن الجزائر مدعوة للنهوض بدور حاسم في هذا النضال العظيم فهي قلب المغرب العربي فإما أن تكون مغاربية أو لا تكون. خامسا: أن بيان الفاتح من نوفمبر نص على ضرورة تحقيق وحدة الشمال الإفريقي التي لم تتحقق لغاية اليوم مما يعني أن النضال من أجل وحدة المغرب العربي نضال من أجل استكمال أهداف ورسالة ثورة الفاتح من نوفمبر. سادسا: إنه من الثابت تاريخيا أن أحد أهم الأهداف المعلنة لهجومات الشمال القسنطيني 20أوت 1955هو تأكيد البعد المغاربي للثورة الجزائرية من خلال تنسيق الجهود الثورية ضد الاستعمار الفرنسي في إطار جيش تحرير المغرب العربي والتضامن مع المغرب الشقيق في ذكرى نفي الملك محمد الخامس أما مؤتمر الصومام 20أوت 1956 فقد وضع مايشبه البرنامج الكامل فيما يخص توحيد المنطقة المغاربية التي كانت انشغالا مركزيا في وثائق هذا المؤتمر الثوري التاريخي العظيم. وتوخيا للدقة والاختصار في بحثنا عن موقع المغرب العربي من المتغيرات الدولية الجديدة نستطيع أن نحتكم إلى منطق الجغرافيا التي وضعت المغرب العربي في مكان وسط بين الامتداد الإفريقي العظيم جنوبا وأوروبا الموحدة _ إلى حين- شمالا. أولا: المغرب العربي وأوروبا: إن أحد العوامل الجوهرية التي تحتم علينا الإسراع والإصرار على بناء المغرب العربي الموحد هو ما تعانيه الوحدة القومية للدول الأوربية من خطر التفكك والانحلال فانبعاث وكثرة الحركات الانفصالية في فرنسا وإنكلترا وإسبانيا وغيرها من الدول الأوربية جعل أوروبا اليوم ورغم كل مظاهر القوة والتفوق في مواجهة مصيرها ويعتقد الخبراء أنه في حالة وقوع أوروبا في أزمات اقتصادية حادة وليس هذا بالأمر المستبعد إذا توافرت لدينا إرادة حقيقية للتحرر من التبعية الراهنة لأوروبا فإن أصوات الانفصال ستكون أكثر ارتفاعا وقوة في مطالبها وبالفعل نجد أن إقليم النورماندي وجزيرة كورسيكا في فرنسا وإسكتلندا في المملكة المتحدة ورابطة لمبارديا في شمال إيطاليا والباسكيون والكتالون في إسبانيا كلهم شعوب تقودهم حركات وأحزاب سياسية تدعو إلى التحرر من سلطة العواصم المركزية وتزداد تصلبا في مواقفها يوما بعد يوم فإذا لم نسرع نحن في توحيد مغربنا العربي فإننا سنواجه وضعا قاتلا أو مأساويا إذ أن أوروبا ستعمل كل ما في مقدورها لتصريف تناقضاتها الداخلية إلى المنطقة المغاربية (الضفة الجنوبية) من أجل احتواء أزماتها الداخلية وبتعبير أدق فإن أوربا وكما فعلت دائما في الماضي لن تتردد في تحميلنا فاتورة استقرارها الداخلي ! وهذا التوجه لم يبق مجرد احتمال بل إنه قد أخذ طريقة إلى التطبيق وهو من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى دليل أو إثبات وليس إنشاء قوة التدخل السريع في شمال إفريقيا _ أوروفور- إلا بداية لتطورات ومخططات أكثر خطورة مما يتصوره الكثيرون فإنشاء قوة التدخل السريع في شمال إفريقيا يجب أن يوضع في سياقه الصحيح ويجب أن لا نستهين بخطورة أهداف أوروبا من وراء إنشائها لهذه القوة خاصة وأننا نعيش عودة صريحة لأكثر أشكال وصور الاستعمار بدائية أعني قيام دولة كبيرة بحشد جيوشها وغزو دولة أخرى أقل منها قوة بغرض احتلالها والسيطرة عليها كما فعلت الولاياتالمتحدةالأمريكية في غزوها لأفغانستان والعراق وكما فعلت فرنسا وبريطانيا في هجومهما على ليبيا سنة 2011. وإننا في الجزائر لسنا أبدا بمنأى عن تكرر مأساة الخامس من جويلية عام 1830 وإن كان الكثيرون منا يعيشون في بلادة سياسية تجعلهم غير قادرين على توقع وفهم ما يمكن أن ينجم عن الواقع الدولي المتقلب من مخاطر ومفاجآت إن (أوروفور) مؤشر على هذا النوع المحتمل من المخاطر والمفاجآت ولكنها ليست المؤشر الوحيد فمنذ عدة سنوات طلب الحلف الأطلسي من إسبانيا إعداد وتدريب قوة عسكرية من خمسين ألف جندي خصيصا لعمليات تدخل محتملة في شمال إفريقيا ولا شك أنه إذا قرر الأوروبيون أو الأمريكيون غزو المغرب العربي أو أحد أجزائه فإن المبررات لن تعوزهم كما أنهم يملكون القوة الكافية لتنفيذ إرادتهم وإيزاء هذا كله ما الذي يجب علينا عمله ؟ إن الوحدة المغاربية هي الحل الوحيد ذلك أنه لا بديل عن الوحدة إلا التجزئة والتجزئة في عالم اليوم ليس لها إلا معنى واحدا ونتيجة محددة وهي (الدمار) في شتى صوره وأشكاله الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية وإن ما يحدث اليوم في أغلب الدول الإفريقية من غياب شبه كامل للدولة ومؤسساتها إلا دليل على أن عصر الكيانات الصغيرة التافهة قد انقضى أو أوشك على الانقضاء ولم يعد مسموحا لها بالحياة. وقد يفسر البعض حالة الحروب وعدم الاستقرار التي تعيشها إفريقيا اليوم ومناطق أخرى في العالم بهشاشة الكيانات التي خلفتها قرون السيطرة الاستعمارية وأفاعيلها السياسية المدمرة ولكن هذا التفسير وحده لا يمكن أن يكون كافيا فالتفسير الأكثر صحة ودقة لهذه الوضعية هو أن التاريخ نفسه في صورته وحركته العامة لم يعد يقبل بوجود واستمرار كيانات ضعيفة مهترئة إذ أن التاريخ _ كصيرورة خلاقة- مع بداية القرن الواحد والعشرين قد قال كلمته وحدد وجهته وأخذ قراره لصالح الوحدة ضد التجزئة ولا مكان لمن يعمل في الاتجاه المضاد لصيرورة التاريخ واتجاهه العام . وهذه الحقائق تكتسي أهمية قصوى بالنسبة لمنطقة المغرب العربي باعتبارها أكثر المناطق أهمية في العالم فهي نقطة تواصل بين القارات ومنطقة بالغة الحساسية من نواح كثيرة ولذلك فإن ما ستخسره جرّاء التجزئة واستمرارها سيكون أضعاف ما ستخسره دول أو مناطق أخرى في أواسط إفريقية أو جنوبأمريكا مثلا وهذا ما يطرح علينا لا ضرورة العمل من أجل وحدة المغرب العربي فقط وإنما ضرورة الاجتهاد من أجل صياغة مفهوم جديد للدولة ووظيفتها ورسالتها التاريخية والحضارية إذ أن الدولة عموما كما هي معروفة اليوم مستمدة فكريا وسياسيا من تجربة الغرب الأوروبي والمطلوب اليوم هو العمل على وضع وصياغة مفهوم جديد وتصور آخر للدولة ووظائفها وما يدعونا إلى هذا ويلح عليه هو ما ذكرناه سابقا عن بداية انهيار القوميات في أوروبا وبداية تحلل الدول الأوربية وتفسحها تحت وطأة تناقضاتها الداخلية والذاتية وبتعبير آخر فإن القومية في أوروبا التي عاشت عصرها الذهبي في القرنين الآخرين ستشهد نهايتها المأساوية في النصف الأول من القرن الواحد والعشرين لأن القومية قد استنفدت _ أو كادت- مهمتها التاريخية والحضارية ونحن في المغرب العربي نتوفر على كل المقومات والقدرات الخلاقة التي نستطيع بواسطتها أن نكون البديل الحضاري الجديد وعلى ضوء وعينا وتحركنا في هذا الاتجاه سيتحدد موقعنا من التحوّلات الدولية الراهنة. ثانيا: المغرب العربي وإفريقيا: إفريقيا هي المجال الحيوي للمغرب العربي كما أن المغرب العربي هو المجال الحيوي لإفريقيا فهي علاقة تكامل وتبادل وليست علاقة استغلال ونهب للثروات والخيرات ولا علاقة إخضاع وتدمير للمقومات والقيم فتشكيل جبهة مغاربية إفريقية لتسهيل معركتنا ضد الفقر وتعزيز موقعنا الدولي ومنع أوروبا من مواصلة نهب ثرواتنا وتخريب ثقافتنا ونسيجنا الاجتماعي ستكون إحدى الأولويات التي يتوجب علينا الاضطلاع بها وإن نجاحنا في هذا التوجه المصيري ضمان لمستقبلنا المشترك واستئناف نوعي لعلاقاتنا التاريخية والحضارية الضاربة في أعماق القدم فالأفارقه منا ونحن منهم وعندما كان المغرب العربي في أوج عطائه ووحدته ووقع التواصل العظيم مع جنوب الصحراء الكبرى جاء هذا التواصل لمصلحة الجميع ولم تنزل الكوارث الكبرى بإفريقيا إلا يوم ضعف المغرب العربي في العصور الحديثة فأصبحت إفريقيا نهبا للغزاة يعيثون فيها دون رادع ولذلك فإن الوحدة المغاربية ضرورة إفريقية كما أنها ضرورة مغاربية وستكون وحدتنا نحن شعوب المغرب العربي انطلاقة جديدة من الأمل لكل الشعوب الإفريقية التي ستجد في جبهة مغاربية قوية موحدة أحسن حليف وصديق كما أن المغرب العربي الموحد سيجد في إفريقيا امتداده الذي حرم منه طويلا ولذلك فإن اهتماما خاصا يجب أن يوجه إلى الدول الإفريقية الواقعة على تماس مع الحدود الجنوبية للمغرب العربي مثل مالي والنيجر والتشاد والسينيغال وإننا قادرون فعلا على تحقيق طموحاتنا المشروعة هذه لأن ما ينقصنا ليس العبقرية بل قوة التنظيم والإيمان بالمستقبل المشترك والتحرر من السلبية والشعور بالنقص تجاه أوربا التي عملت طويلا على إذلالنا وقهرنا وتشويه إنسانيتنا بحجة النهوض بأعباء الرسالة الحضارية تجاه همج إفريقيا ! والخلاصة أن الجبهة المغاربية لابد و أن تتكامل مع الجبهة الإفريقية التي يقع على عاتقنا كمغاربيين العبء الأكبر في تكوينها بما يخدم المصالح الإفريقية المغاربية المشتركة بعيدا عن كل هيمنة أو وصاية أوربية أو أجنبية أيا كانت وتقودنا الأفكار والتحليلات السابقة إلى النتائج الهامة التالية: أولا: إن نجاحنا في بناء المغرب العربي الموحد يعني بالدرجة الأولى تجاوز الشعوب المغاربية لأوضاع الجهل والتخلف والفقر ووضع إمكانيات المنطقة المغاربية وهي إمكانيات ضخمة في خدمة الشعوب المغاربية. ثانيا: إن المغرب العربي الموحد يعني ظهور قوة دولية جديدة على مسرح الأحداث العالمي بما يؤدي إلى إعادة التوازن المفقود منذ عدة قرون بين ضفتي المتوسط. ثالثا: سيكون بوسع المغرب العربي الموحد الاستفادة من موازين القوى العالمية بدل أن يكون مجرد ضحية لاضطرابات الواقع الدولي وتناقضاته كما هو الشأن في الوقت الراهن. رابعا: سيكون في مقدور المغرب العربي الموحد أن يلعب دورا رائدا في النهوض بإفريقيا وحمايتها من النهب والاستغلال والعدوان الأوربي. خامسا: إذا كانت أوربا كما قال الشاعر والفيلسوف محمد إقبال هي أكبر عائق في سبيل الرقي الأخلاقي للبشرية فإن الوحدة المغاربية ستتيح الفرصة للشعوب المغلوبة لكي تلتقط أنفاسها وتجدد سيرها نحو الحياة في ظل القيم الأخلاقية والإنسانية التي دمرتها أوربا. وبتعبير موجز فإن المغرب العربي الموحد سيكون إعلانا عن نموذج حضاري جديد في حوض البحر الأبيض المتوسط ومثلا حيا ومنارة مرشدة للبشرية في عالم القرن الواحد والعشرين وتحوّلاته الزاحفة.