قراءةٌ في المشروع الوحدوي المُغيَبِ عن نظرِ الأجيالِ بقلم: فوزي حساينية * الجزء الأول كلما أُثير الحديث عن مؤتمر الصومام يُبادر البعض وعلى الفور برفع اللافتتين المقدستين (أولوية السياسي على العسكري) و (أولوية الداخل على الخارج) ثم يبدأ التشنجُ وترتفع درجة التوترِ ويشرع المتحدثون في التحزُّبِ والتخندقِ الأيديولوجي بأثر رجعي لينتصرُوا لهذا أو ذاك من الأبطال الذين صنعوا ملحمة الصومام مع العلم أن العديد من قرارات هذا المؤتمر وعلى رأسها المبدأين المذكورين قد خضعت للتعديل والمراجعة بعد سنة واحدة خلال مؤتمر القاهرة في شهر أوت 1957 مما يفيد أن تأثير هذين المبدأين كان محصوراً في فترة محدودة من عمر الثورة رغم بعض التفاعلات والامتدادات التي ترتبط عضويا بحروب التحريرِ. والمختصون في تاريخ الثورة الجزائرية كما القراء المهتمون يعرفون يقيناً أن مؤتمر الصومام الذي جرتْ أشغاله في الفترة من 14أوت إلى50 سبتمبر1956 بقرية افري أوزلاقن ببجاية يُعَدُ من أهم المحطات في المسيرة التاريخية التي دشنها ثوار الفاتح من نوفمبر 1954 بغرض القضاء على النظام الكولونيالي البشع وإعادة بعث الدولة الجزائرية وبناء وحدة المغرب العربي ليس كخيار إيديولوجي إستراتيجي فحسب بل كضرورة تاريخية ولا ريب أن ذكرى مؤتمر الصومام تُوحي بالكثير من المسائل والأطروحاتِ والتناقضاتِ ليس بسبب اختلاف وتباين الرُؤى الأيديولوجية فقط بل ولأهمية المؤتمر في ذاته والظروف الاستثنائيةِ التي تمَّ فيها وما انتهى إليه من قرارات ونتائج بالغة الأهمية ولن أتعرض في هذا السياق إلا لمسألة الوحدة المغاربية كما وردت في ميثاق الصومام والسؤال هنا هل فكرة الوحدة المغاربية مسألة طارئة أو مفتعلة من طرف المجتمعين في مؤتمر الصُومام لأسباب ظرفية أم أنَّها مسألة مبدئية تُتَرجمُ استمرارية نضالات وتراكمات سابقة ؟ وما هو موقع وأهمية الوحدة المغاربية في أرضية الصومام ؟ و هل أنَّ مسألة الوحدة المغاربية في هذا المؤتمر قد أصبحت مسألة تاريخية محضة أم أن لها أبعاداً راهنة ومستقبلية ؟ وبتعبير آخر ما الذي يمكن أن نستفيدهُ نحن اليوم من اهتمام مؤتمر الصومام بمسألة البناء المغاربي المشترك؟ وإذن فنحن أمام أسئلة ثلاثة سنحاول أن نقدم حولها إضاءات موجزة ونبدأ بأول هذه الأسئلة والمتعلقة بطبيعة حضور الفكرة المغاربية في أرضية الصومام وهل هو حضور طارئ مفتعل لأسباب تكتيكية انتهازية أم هو حضور جوهري أصيل يعكس استجابة واعية من قادة الثورة لنداء التاريخ في المنطقة المغاربية ؟ ولكي تتضح الصورة لابد من العودة ولو قليلاً إلى الوراء فقد جاءت الإشارة بوضوح تام إلى ضرورة وحتمية الوحدة المغاربية في أول تقرير أعدته المنظمة الخاصة سنة 1948 أي بعد انقضاء سنة واحدة على تأسيسها وإنَّه لمن الرائع حقاً أن نقرأ في هذا التقرير العبارات التالية: المسؤولية تعود إلينا للشروع في عملية التوحيد لمساعدتهما- تونس والمغرب- على تنظيم هياكل مشابهة لهياكلنا.. ويالها من مسؤولية هكذا كان شباب المنظمة الخاصة يفكرون في سنة 1948 في وقت كانت الجزائر فيه ترزحُ تحت وطأة استدمار شامل مع ضعف الإمكانيات والوسائل وقلة الاستعداد والتهيؤ لدى الكثيرين وعدم ملائمة المحيط الإقليمي والدولي كانوا يفكرون ويستعدون ليس فقط لتحرير الجزائر بل ولتوحيد المنطقة المغاربية انطلاقا من أن ذلك مسؤوليتهم وليس مجرد مهمة يتطوعون لها ويُواصل التقرير شرح أهمية استغلال الحاجة إلى الكفاح المشترك لتحقيق وحدة المنطقة المغاربية (الكفاح المشترك ليس فقط ضمانا للانتصار على القوات الاستعمارية بل هو كذلك ضمان لوحدة المغرب إذ في خضم الكفاح التحريري تنهار الحدود المصطنعة التي تُجزئ هذه الوحدة..) الحدود التي تفصل بين الدول المغاربية إذن في حكم هذا التقرير التاريخي حدود مصطنعة ولا أجد أبدا أجمل ولا أعمق من هذا الوصف في التعبير عن مأساة الحدود التي جعلت من أرضنا المغاربية الواحدة دولا وأقاليم شتى. حقائق ومفاهيم أما إذا نحن استعرضنا بيان أول نوفمبر فإننا سنجد أنه ينص في فقرته الأولى: (نُعلمكم أن غرضنا من نشر هذا الإعلان هو أن نوضح لكم الأسباب العميقة التي دفعتنا إلى العمل وذلك بأن نعرض عليكم مشروعنا .. وصواب وجهة نظرنا التي يبقى هدفها دائما هو الاستقلال الوطني في إطار الشمال الإفريقي...) ثم ينصُ في الفقرة الثالثة: (إن أحداث المغرب وتونس لها دلالة في هذا الصدد فهي تُعبرُ بعمق عن مسار الكفاح التحريري في شمال إفريقيا. ومما يُلاحظُ في هذا الميدان أننا منذ أمد بعيد أول الداعين إلى الوحدة في العمل التي مع الأسف لم تتحقق أبدا بين الأقطار الثلاثة) ولايلبث البيان أن يعود إلى التذكير بوحدة المصير المغاربي عندما يؤكد على ضرورة إخراج الحركة الوطنية من المأزق الذي أوقعها فيه صراعات الأشخاص وذلك كله بغرض دفع الحركة الوطنية إلى المعركة الحقيقية الثورية إلى جانب إخواننا المغاربة والتونسيين ثم وفي سياق تحديد الأهداف الخارجية للثورة المباركة يذكر البيان بوضوح وقوة تصميم: تحقيق وحدة شمال إفريقيا في داخل إطارها الطبيعي العربي والإسلامي العروبة والإسلام اللتان سماهُما بيان أول نوفمبر بالإطار الطبيعي لوحدة شمال إفريقيا هو ما عملت فرنسا بكل قوتها الإدارية والثقافية والعسكرية لسحقهما والقضاء عليهما لذلك جاء التأكيد عليهما هنا كإعلان مبكر بفشل المشروع الاستدماري في أخطر أهدافه ومشاريعه. وهنا قد يلاحظ البعض أن اهتمام شباب المنظمة الخاصة ورواد الفاتح من نوفمبر بمسألة الوحدة المغاربية أمر بديهي باعتبار أنهم شباب ثوريون تربُوا في أحضان حزب الشعب الجزائري سليل نجم شمال إفريقيا الذي تعد الوحدة المغاربية من المكونات الجوهرية لإيديولوجيته الثورية ومع أن هذه الملاحظات صحيحة تماما إلا أننا نستطيع أن نؤكد أن الإيمان بالوحدة المغاربية كان يشكل قناعة راسخة حتى لدى بعض التشكيلات السياسية الجزائرية التي لم تكن تتبنى في نضالها المنطق الثوري لمعالجة القضية الجزائرية وعلى سبيل المثال نجد أن حزب الإتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري بزعامة فرحات عباس - وفي معرض الإعراب عن انتقاده لسياسة الحزب الشيوعي الجزائري- نص في اللائحة الخاصة بالسياسة العامة للحزب المصادق عليها يوم 27-09-1948 بمدينة سطيف على أن الحزب الشيوعي يتصور الجمهورية الجزائرية في إطار الاتحاد الفرنسي ويرفض رفضا قاطعا اللغة العربية والعروبة والإسلام كما أنه لا يؤمن بوحدة شمال إفريقيا... فعدم الإيمان بوحدة شمال إفريقيا من وجهة نظر الإتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري خطيئة سياسية وإخفاق فكري وهي رؤية سياسية مُلهِمة لا نكاد نعثر عليها اليوم حتى لدى أكثر التشكيلات السياسية والاجتماعية إدعاءً وتشدقاً بالوفاء لفكرة الوحدة المغاربية في تراث الحركة الوطنية. ومن الجدير بالذكر أن الوفد الخارجي للثورة الجزائرية(محمد خيضر حسين آيت أحمد أحمد بن بلة) وفي أول مؤتمر له بالقاهرة يوم 15 نوفمبر1954 كان بالإضافة إلى مسائل أخرى قد لاحظ أن وحدة المغرب العربي تتطلب وحدة الحلول. يتبع.. * إطار بمديرية الثقافة لولاية قالمة