20 أوت 1955: يوم التحدي والمفاداة بقلم: الأستاذ أحمد بن السائح -الجزء الرابع والأخير- *ردود الفعل: وعلى عادته تجاوز رد العدو كل الحدود وأطلق العنان لنزواته المتعطشة لسفك الدماء بشكل انتقامي ووحشي ومارس البطش بأساليب قاسية لَمْ يُمَيِّزْ فيها بين من شارك ومن لم يشارك وعلى الفور جرد سلاح الإبادة وأعلن حالة الطوارئ وبدأت الجريمة تلاحق المواطنين وفُسِحَ المجال لارتكاب المجازر بالجملة وكانت الإبادات الجماعية هي سيدة الموقف واستمرت المذابح متواصلة على مدى أكثر من أسبوع ولَمْ تقتصر طرائق القتل على الإباة الوحشية للمواطنين الجزائريين بل تحول العدوان إلى محو لمشاتي ودواوير وقري عن بكرة أبيها واستئصالها تماما من على وجه الخارطة كما حدث ل: ((مشتى الزفزاف)) التي أصبحت أثرًا بعد عين وحتى المواشي لقيت نفس المصير و((عين عبيد)) التي تحولت إلى صمت أبدي لا يجيب وغيرهما من الأماكن التي طالها القتل والترويع ولَمْ يبق من آثارها سوى أجداث الشهداء المتراكمة شاهدة على عنف الهيمنة الطاغية التي تمارسها حضارة بنت الكنيسة البكر !!! ومن أبشع المذابح التي أعقبت الهجومات المظفرة ما وقع في الملعب البلدي لمدينة سكيكدة التي تعرض سكانها إلى قمع وملاحقات ومطاردات فضيعة ساقت الناس إلى حتفهم وانتهت بهم إلى الملعب الرهيب حيث الإبادة الجماعية المبرمجة المتفق عليها بين السلطات المحلية الغاشمة وفئات المعمرين وسلطات باريس وكلهم على نفس الشاكلة وكان إجماعهم على انتهاج التصفيات الجسدية للإنسان الجزائري بوساطة التقتيل الجماعي بدون تحقيق ولا محاكمة !!! ونورد هنا تصريح رد فعل وزير الداخلية الفرنسي وما ينطوي عليه من نية مبيتة وحقد دفين مُتَشَبِّعِ بالكراهية ومباركة كل عمل إجرامي يستهدف المواطنين الجزائريين وليس غريبا بعد هذا إذا رأيناه يكرر كلمة: ((القمع)) ويشدد عليها وهو يتحرش بها ضد الجزائريين عقب الإنتقام والبطش الذي ارتكبته قردته وخنازيره وهذا صريح تصريحه: ((... إنه القمع ثم القمع وإنه سوف يرسل ستة فيالق على جناح السرعة لاحتواء هذا التمرد وتوزيع السلاح على كل المعمرين وإن الحرب لن تنتهي إلا بعد القضاء التام على المتمردين وإعادة السلم العام إلى إقليم الجزائر.)) !!!. أ. ه ( ). وما حدث في سكيكدة وغيرها من مقاتل وانتهاك للحياة الإنسانية يمجده هذا الإرهابي وزير الداخلية ويتقبله باعتزاز ووقاحة كبير زبانية الإستدمار ويهدد ضحاياه بالمزيد من البطش والقمع إن هم حاولوا صَدَّ الإبادة واختاروا التحرير والسيادة. كان رد الفعل جنونيا وقاسيا ولَمْ يكن التقتيل الفظيع إرهابًا يستعرض ما لديه من وسائل القمع والفناء بل كان محرقة دشنت عهدًا جديدًا للهلاك والموت الزؤام. وفي لمح البصر تحولت الشوارع والساحات العامة إلى أكوام متراكمة بجثث الشهداء المتناثرة في كل مكان وكان القتل همجيًا وعشوائيًا شاركت فيه فئة المعمرين إلى جانب العسكريين وبالتوازي مع مجريات المجزرة الرهيبة كانت موجة أخرى للإعتقالات لَمْ يفلت منها إلا من تحصَّنَ بالجبال. وكان مصير الْمُعْتَقَلِينَ الإعدامات الجماعية: ((... يقول أحد الجنود الفرنسيين وهو يتحدث عن المذبحة الجماعية بمدينة سكيكدة: [[ إننا شرعنا نطلق الرصاص على الجميع بدون تفريق... بعد ذلك جاءت أوامر جديدة تقضي بجمع الأسرى وقتلهم جميعا رميا بالرصاص... إلى درجة أن دفنهم استوجب استعمال الجرافة . ]] )). أ. ه ( ). وفي نفس السياق يذكر الأستاذ محفوظ قداش في كتابه: ( وتحررت الجزائر ) عن فداحة مذابح ملعب سكيكدة: ((... يروي جندي فرنسي عايش الحدث يقول: [[ وُجِّهَتْ كل البنادق والرشاشات المصطفة صوب جموع المساجين الذين شرعوا مباشرة في الصياح لكننا أطلقنا النار عشر دقائق من بعد كان قد انتهى كل شيئ ومن كثرة عددهم كان الأمر يتطلب جرافات لدفنهم ]] )). أ. ه ( ). وطيلة مسيرة الإحتلال البغيض كانت شلالات الدماء تتدفق بغزارة لَمْ يعرف مثلها تاريخ التطهير العرقي في أي مكان آخر ما عرفته وشهدته منطقة الشمال القسنطيني في ال 20 أوت 1955 مِ أَوْ ما وقع من مجازر وحشية في الثامن ماي 1945 مِ أو ما حدث لأسلافنا في القرن االتاسع عشر ولعل أبشعها على الإطلاق ما تعرضت له قبيلة أولاد رياح في غار الفراشيش يوم 17 جوان من سنة 1845 مِ وهي المحرقة التي أطلق فيها السفاح بيليسييه( ) العنان لشهواته ونزواته التي لا تبشم من الدماء وكانت إبادة جماعية بشكل مرعب ذهب على إثرها أكثر من 1000 شهيد قضوا نحبهم بالحرق والإختناق. النتائج والأهداف: وكانت هجومات 20 أوت التاريخية بمثابة الزلزال الذي هَزَّ القوة والغطرسة الفرنسيتين ومَسَّ كرامة فرنسا الكولونيالية وحَرَّكَ من خلال كل ذلك الوعي الفرنسي من الأعماق وجعله يلتفت لحقيقة ما يجري في الجزائرالثائرة. وقد ظل الرأي العام الفرنسي بعيدا عن تفاصيل الحقيقة الدائرة في الجزائر والتي راحت الدعاية الرسمية لفرنسا الإستدمارية تحجبها وتقدمها للشعب الفرنسي وللعالم أجمع على غير وجهها الصحيح. وقد جاءت هجومات الشمال القسنطيني لِتُسْقِطَ كل الإفتراءات التي مَرَدَتْ على تسليعها سياسة الإدارة الفرنسية وأصبحت تلك التسويقات لا معنى لها بعد الهجومات المظفرة وحتى الصحافة الفرنسية بما فيها يمينها المتطرف أصبحت تنظر للقضية الجزائرية بمنظور آخر يختلف عن النظرة التي ظلت سائدة قبل الهجمات التي قَلَّبَتْ كل الحسابات وجعلت الجميع يبدي ويعيد لتحديد الموقف المناسب والتكيف مع الواقع الجديد الذي سَفَّهَ حكاية ((المتمردين)) ونسف ورقة التضليل ((الفلاقة والخارجين عن القانون)) التي كانت تستعمل لأغراض شتى تمليها إرادة سُرَّاقِ الأوطان وقتلة الشعوب من سحرة الإستدمار وجلاديه. وقد أسفرت هجمات ذلك اليوم الأغر عن أهداف ونتائج نوعية باهرة نذكر منها: 1 فك الحصار الحربي المضروب على المنطقة الأولى (الأوراس) وفتح جبهة الشمال القسنطيني التي شَتَّتَتْ كثافة قوات العدو التي أسرفت في التركيز على الأوراس. 2 الرد الحاسم على السياسة الإستعمارية التي كانت تسعى على الدوام لعزل الشعب عن ثورته فجاءت هذه الهجومات لتحقيق التلاحم الشعبي الذي كان في الواجهة وفي صدارة المجابهة إلى جانب رجالات جيش التحرير. 3 نقل عنفوان الثورة وتطلعاتها إلى عمق المدن الكبرى وضرب المنشآت العسكرية والمؤسسات الإقتصادية للمعمرين في واضحة النهار وهذا الواقع الذي كَرَّسَهُ تَوَجُّهُ الهجمات يُعَدُّ فتحًا عسكريا جديدا يجعل الناس ينظرون إلى حقيقة زيف عظمة فرنسا (التى لا تقهر) ويستصغرون مجدها الهلامي القائم على الإفك والتدجيل. 4 كسر هاجس الخوف لدى المواطنين وتصديهم بالمجابهة المباشرة والعلنية للإستدمار ومنشآته وملاحقته في المزارع والمؤسسات والإدارة ومراكز الأمن والثكنات. 5 مردودية الهجمات كانت مثمرة بما حققته من أهداف نوعية وإيجابية على المستويين العسكري والسياسي وبما تركته من أصداء واسعة وتساؤلات لدى المجتمع الدولي والرأي العام العالمي. 6 التأكيد على شمولية الثورة ووحدتها الشعبية واستمراريتها في كل المناطق. يقول الأستاذ الدكتور عامر رخيلة: (( وضعت هجومات 20 أوت حَدًّا للمزاعم الفرنسية القائلة بأن ما يجري في الجزائر عمل محدود ومعزول لمجموعات خارجة عن القانون معزولة شعبيا فكانت تلك الهجومات جوابا شعبيا صريحا لأولئك الذين كانوا يعتقدون أن دعايتهم في الأوساط الشعبية وجدت تجاوبا وأن مسألة القضاء على التمرد مسألة وقت ليس إلا...)) !!!. أ. ه( ). 7 تعزيز الكفاح المسلح وتعميم الثورة لإسقاط مشاريع (سوستال) الرامية لعزل الثورة عن الشعب. 8 إسقاط حكومة ( أدغار فور ) واستبدالها بحكومة غي موليه ) ووصول صدى الهجمات إلى باريس بالإضافة إلى المسيرات واحتجاجات أكثر من 400 عسكري من المظليين الذين رفضوا الإلتحاق بالجزائر. 9 قطع الطريق أمام تضليلات مكبرات الصوت المروجة لاختلاق فكرة الضِّرَارِ [[ القوة الثالثة ]] !!! التي يراهن عليها أَرِبَّةُ ( جاك سوستال ) لضرب صلة الثورة بالشعب وعزلها عن تمثيله وطمس [[ وحدة التنظيم الثوري ]] وهذه الأخيرة من أهم منجزات ومكاسب جيش وجبهة التحرير الوطنيين. 10 تحقيق جدوى التصدي لدحض أباطيل ( سوستال ) وفي هذا الصدد يقول البروفيسور يوسف مناصرية: ((... مواجهة مخططات سوستال... وتمثلت خسارته سوستال أن انفجرت لجنة الإصلاحات والتحق أعضاؤها بالثورة وتنحى سوستال عن الجزائر وطرحت القضية الجزائرية في المحافل الدولية بقوة وبرزت الجوانب اللاإنسانية في السياسة الإستعمارية وانشق الرأي العام الفرنسي وصار منهم مناصرًا للثورة...)). أ. ه ( ). 11 إثبات أن في الجزائر ثورة نابعة من شعب يلتف حول قادتها العسكريين ومسيريها السياسيين وليست من تدبير ( متمردين وخارجين عن القانون ) كما تزعم عقيدة الزيف والإدعاء التي يُسَوِّقُهَا الإستدمار وأذنابه. 12 النجاح في تدويل القضية الجزائرية وإيصالها إلى أروقة الأممالمتحدة. 13 سَرَّعَتْ هجمات الشمال القسنطيني المباركة باستقلال المغرب وتونس حتى يتسنى لأم الإستدمار كما تزعمُ وتتطلَّعُ التفرغ للمسألة الجزائرية. 14 ساهمت الهجمات التاريخية المظفرة في فضح سياسة فرنسا الإستدمارية التي ليست لها من غاية سوى إبادة وسحق الشعب الجزائري من أجل الإنفراد باغتصاب أرضه والإستحواذ على خيراته ووضع يد الهيمنة على كامل ممتلكاته. وعلى الجانب الآخر استطاع الشهيد شيهاني بشير بقيادته الميدانية الفذة وإحساسه بثقل المسؤولية الملقاة على عاتقه أن يُفَتِّتَ قوة العدو المحاصرة للأوراس والتي لا تزال ترصد كل التحركات في كامل منطقة الأوراس ومن هنا جاء رَدُّ فعل شيهاني بعد تفكير عميق ودراسة شاملة إلى المسارعة بعقد اجتماع في جبل الجرف في أواخر جويلية 29 / 07 / 1955 مِ أشرف عليه شيهاني بشير بنفسه وأثناء هذا الإجتماع تَمَّ تكليف محمد لخضر ( حمَّ لخضر ) بالتكفل بمهمة خوض غمار فتح الصحراء الشرقية وقد سبق للقائد مصطفى بن بولعيد أن عينه حمَّ لخضر كقائد لهذه الجهة على أساس أنه من الجهة وأصيل منطقة وادي سوف وله معرفة وخبرة بمسالك الصحراء. وقام حمَّ لخضر بواجبه وافيا غير منقوص بمعية طائفة من المجاهدين الأشاوس الذين أبلوا البلاء الحسن وتجشموا قطع تلك المفاوز والفيافي الشاسعة كما قطعها من قبل رجالات الفتح الإسلامي وهي مسافات صعبة وشاقة لا يستطيع التصدي لها إلا من كان مُتَسَلِّحًا بالصبر والمصابرة ومفطورًا على المقاومة والتحدي وما كادت مهمة هؤلاء الأبطال تكتمل وتؤتي أكلها حتى كانت الوشاية بهم إلى السلطات الإستعمارية أسبق وعلى الفور تحركت أعين العدو الراصدة تقتفي أثرهم ولَمْ تكن طبيعة المنطقة بدورها في صالحهم ولَمْ يبق لهم إلا التسلح بالعزيمة الصادقة والثبات لمواجهة الباطل ومقاومة جحافل الخنازير التي تلقت هزيمة نكراء في معركة ( غوط شيكة ) الشهيرة التي دارت وقائعها أيام 8 9 10 أوت 1955 مِ واستشهد حمَّ لخضر ومن معه عن آخرهم بعد مقاومة شرسة كبدوا فيها الإستدمار خسائر فادحة في عتاده وعساكره مما جعله يحسم الأمر بقصفهم وقنبلتهم بوساطة إحدى عشرة طائرة بعد فشله في مواصلة منازلتهم على الأرض وبسبب تلك الوشاية تَقَدَّمَتْ معركة ( غوط شيكة )( ) بأكثر من عشرة أيام كاملة عن 20 أوت في الشمال القسنطيني.