أطل يوم 7 جوان 2010 بجديد وتاريخي على القوة العظمى في العالم، فمعه ستتمكن أفغانستان الفقيرة المتخلفة والضعيفة بين الأمم أن »تفخر« بأنها جرّت أكبر وأقوى دولة في العالم إلى أطول حرب خاضتها الولاياتالمتحدة في الخارج وداخل أراضيها حتى الآن، وأكثرها كلفة مالية وفي العتاد، فسبحان من »يضع سره في أضعف خلقه« كما يقول المثل المعروف. لم يسبق أن قاتل الأمريكيون طوال 9 سنوات من دون توقف إلا في أفغانستان، ومع ذلك فالحرب التي قضى فيها هناك 1007 قتيل أمريكي، وفق جردة الإثنين الماضي، لا يعرف أحد متى ستنتهي، وهي ليست الأشد دموية بين 6 حروب كبرى خاضها الأمريكيون في الداخل والخارج، بل في السلسلة ما هو أعنف منها بكثير. نقرأ فيما يكتبون أن أشرس الحروب بعدد الضحايا كانت ولاتزال الحرب الأهلية الأمريكية، أو الحرب بين الولايات، فهي صاحبة رقم قياسي ملطخ أكثر من سواه بالخراب وبالدم الأمريكي، ففيها احترقت مدن وأرياف ناشئة عن بكرة أبيها قبل 149 سنة، حيث عبث فلتان الحقد وسالت الدماء من شرايين أبناء العم سام شآبيب على أرضهم طوال 48 شهراً من دون توقف، حتى انتهت في 1865 بأرقام مرعبة بمقياس وفيات ومواليد ذلك الزمان، حيث كان السكان 36 مليون نسمة تقريبا: 625 ألف قتيل و80 ألف مفقود ومعهم مليون مشوه وضِعفهم من المشردين، وخسائر قيمتها اليوم أكثر من 300 مليار دولار، وكله مسجل في أرشيفات بالمتاحف معززة بنصوص ووثائق وصور. ويتسلى المولعون بالإحصاءات أحياناً فيكتبون أنه لو لم تكن تلك الحرب وبقي ضحاياها أحياء يعيشون ويعملون كالمعتاد لأضاف أبناؤهم والمتحدرون من أحفادهم 10 ملايين أمريكي على أقل تعديل إلى سكان الولاياتالمتحدة البالغين اليوم 310 ملايين نسمة. كما أن الهجرة تقلصت إليها طوال مدة القتال، فخسرت البلاد الباحثة ذلك الوقت عن اليد العاملة أكثر من 300 ألف مهاجر، وبالمقابل غادرها ما يزيد على 100 ألف من مواطنيها إلى كندا ودول بأمريكا اللاتينية هاربين من قتال بربري شرس. وقبل الحرب الأهلية التي اشتعلت بسبب انفصال 13 ولاية في الجنوب عن اتحاد الولاياتالمتحدة، خاض الأمريكيون أولى حروبهم الدموية الكبرى، أو ما سموه »الحرب الثورية« للاستقلال عن بريطانيا، بأسلوب المحارب البدائي، لذلك طال القتال متقطعاً واستمر 81 شهراً بدءاً من 1775 إلى أن انتهى في 1783 بسقوط 25 ألف قتيل من الأمريكيين، وهو كبير لدولة بالكاد كان عدد سكانها 4 ملايين نسمة في ذلك العام. أما خسائر »الحرب الثورية« بالمال والعتاد فتزيد قيمتها وفق تقديرات هذه الأيام على 20 ملياراً من الدولارات. نيران العراق وأفغانستان تحرق ألف مليار دولار وخاض الأمريكيون حرباً ثالثة كبرى في تاريخهم، وكانت أليمة ودموية، وكلفتهم 405 آلاف و399 قتيلاً، وخسائر مادية تزيد قيمتها الشرائية اليوم على 400 مليار دولار، وكله في 44 شهراً من القتال في القارة الأوروبية وبلاد الشرق البعيدة في آسيا زمن الحرب العالمية الثانية. وبعدها دخلت أمريكا من 1968 إلى 1973 في حرب مؤلمة رابعة بفيتنام، حيث قضى 58 ألفاً و209 جنود طوال 103 أشهر، وكلفت الأمريكيين بسعر اليوم ما يزيد على 200 مليار دولار. ثم تبدلت الحال على الدولة العظمى، فدخلت في حروب لوجستية من نوع مختلف، كحرب باردة مع الاتحاد السوفييتي لم تنته في 1991 إلا بعد أن ظلت تعلّ في العالم طوال 40 سنة تقريباً، وهي حرب »فرّخت« حرب السباق على غزو الفضاء، ففازت الدولة الأكبر بالحربين معاً، إلى أن خرج لها ما لم تكن تحسب له أي حساب، فكانت الحرب في 7 أكتوبر 2001 على أفغانستان مباشرة بعد تفجيرات 11 سبتمبر في واشنطن ونيويورك ذلك العام، وبعدها بثلاث سنوات بدأت حرباً جديدة على نظام صدام حسين في العراق، وفي الحربين بلغ الإنفاق وفق جردة أعدوها يوم 30 ماي الماضي ألف مليار دولار تماماً. الحرب في أفغانستان، حيث للولايات المتحدة 94 ألف جندي الآن، هي الأطول والأكثر كلفة، فالقتال مستمر هناك منذ 104 أشهر بلا توقف. أما العراق، حيث للأمريكيين 92 ألفاً من الجنود، فكانت حربه مؤلمة أيضاً وكلفت الولاياتالمتحدة حتى الأربعاء الماضي 4402 قتيل، وعدد كبير من الجرحى والمشوهين غير معروف. وإذا أردت أن تتسلى مع الراغبين بالتسلية من الأمريكيين، ومعظمهم أعضاء في مواقع مهمة على الانترنت متخصصة بحربي العراق وأفغانستان، كموقع »ريثينكافغانستان« الأفضل من سواه، فبإمكانك الجلوس إلى طاولة لتحسب فيها على الورق ما كان باستطاعة الإنسان أن يفعله بألف مليار دولار صرفها الأمريكيون على اللاشيء في الحربين، أي أكثر من 9 مليارات شهرياً طوال 9 سنوات بأفغانستان و7 في العراق. ستجد أن بالإمكان بناء 200 مستشفى بحجم مستشفى الملك فهد التخصصي، وهو راق بلغت تكاليفه 250 مليون دولار بالدمام، وكلفتها جميعاً لن تزيد على 50 ملياراً. كما يمكن بناء 20 ألف مدرسة، بكلفة 150 مليار دولار، ومعها 10 آلاف معهد للتعليم المهني العالي، بالكاد كلفتها 100 مليار أيضاً. وهناك إمكانية لبناء 200 جامعة عالمية المستوى، بكلفة لا تزيد على 100 مليار دولار، إلى جانب 30 ألف مكتبة تحتوي كل منها على 100 ألف كتاب و100 كومبيوتر، وجميعها بكلفة لا تزيد على 200 مليار دولار، مع تخصيص 50 مليار دولار كرأسمال للتشغيل والإدارة لعشرات السنين. أما الباقي، وهو 350 مليار، فيمكن استثماره لبناء 200 مصنع للأدوية والمواد الغذائية والضروريات، كما لاستصلاح الزراعة في الدول الفقيرة ولبناء 100 مختبر علمي، مع تخصيص 50 ملياراً للأبحاث المستهدفة قهر السرطان والإيدز والملاريا والسكري والأمراض المشوهة الأطفال، إلى جانب بناء مليوني وحدة سكنية على مراحل لفقراء القارات الخمس. كما ولرفع آلاف المنشآت الرياضية والنوادي ومؤسسات الفن والثقافة والجمال البريء، وغيرها الكثير. إلا أن الألف مليار دولار الذي كان موجوداً بالفعل احترق بنار الحرب وتبخر وذهب مع الريح، ومعه قضى الآلاف من الأمريكيين، وربما مليون من الأفغان والعراقيين.