بقلم: سعيد الشهابي من بين أخطر آفات المجتمع الدولي تسييس المعونات الإنسانية التي يفترض أن تتجاوز الاختلافات والخلافات بين الدول سواء كانت سياسية أم غيرها. ويُفترض أن يتعالى البشر على المصالح الضيقة ويضعوا الاعتبارات الإنسانية فوقها دائما. وما تمر به منظمة أونروا هذه الأيّام تجسيد واضح لتسييس المساعدات الإنسانية التي يُفترض أن تُقدم لمحتاجيها بدون قيد أو شرط. هذه المنظمة هي الوكالة الدولية لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التي تتعرض لأبشع استهداف في تاريخها إذ تتهمها إسرائيل بأن بعض بعض موظفيها شارك في هجوم حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية (حماس) في السابع من أكتوبر. القضية هنا ليست تأكيد هذه الدعاوى أو تفنيدها فما هو على المحك إنما هو العون الذي يُفترض أن يتوفر للاجئين الفلسطينيين الذين تتزايد أعدادهم باضطراد. فمع أن هناك الملايين الذين فرض عليهم الاحتلال العيش في المخيمات منذ 75 عاما فإن استهداف غزة من قبل الإسرائيليين ضاعف الأزمة كثيرا ووضع القيم الإنسانية لدى الدول المانحة على المحك. كما كشف هشاشة المنظومة الأخلاقية لديها إذ تكفي دعاية صهيونية غير موثقة لإعلان وقف المنح التي تقدمها هذه الدول لمنظمة أونروا . ليس جديدا القول إن الإسرائيليين كانوا جادّين في منع الطعام والدواء عن غزة منذ الأيّام الأولى لاندلاع الأزمة بعد حوادث 7 أكتوبر. جاء ذلك على لسان قيادات الاحتلال وعلى رأسهم بنيامين نتنياهو. ولولا الضجة الدولية التي أحدثتها تلك التصريحات لربما مات أهل غزة جوعا. مع ذلك فهناك مجاعة واسعة في القطاع يسعى الغربيون للتعتيم عليها. ومنع الطعام والدواء في القانون الدولي يعتبر من جرائم الحرب. ولكن حتى الآن لم يُحاكم أي مسؤول إسرائيلي بهذه التهم. صحيح أن هناك قضية أمام محكمة العدل الدولية ولكنها تتعلق بالإبادة وهي قضية رفعتها جمهورية جنوب أفريقيا وما تزال تراوح مكانها برغم صدور قرار أولي عن المحكمة لكيان الاحتلال بمنع الإبادة بدون الدعوة لوقف إطلاق النار. وإنه لأمر غريب جدا أن يرفض هذا العالم الدعوة لوقف إطلاق النار وإن كانت الأمور تتجه لغير صالح الاحتلال. هذه المرة دفع الإسرائيليون ثمنا باهظا لعدوانهم وفشلوا في تحقيق هدفهم المعلن متمثلا بالقضاء على المنظمات المقاومة خصوصا حماس . وبعد قرابة الشهور الأربعة ما تزال هذه المنظمات قادرة على مناكفة الاحتلال ومقاومته وتكبيده خسائر كبيرة وقد قتل العديد من القادة الكبار في معارك غزة برغم التفاوت في الميزان العسكري لدى طرفي النزاع. وما أثار الاستغراب كثيرا قرار استهداف المنظمات الإغاثية وفي مقدمتها أونروا . هذه المنظمة تساهم في تقديم دعم مادي للفلسطينيين الذين حُرموا من أرضهم وسيادتهم وأصبحوا لاجئين في المعسكرات غير قادرين على تأمين حياة آمنة. وقد ردّت المنظمة على الاتهامات التي وجهتها لها قوات الاحتلال وداعموها في الغرب. فمن غير المنطقي أن تسمح لموظفيها بممارسة أعمال عنف لعلمها أنها تحت المجهر وأنها تقدم خدمة أفضل للفلسطينيين إذا التزمت بميثاق عملها ولم تتجاوزه. وفي الوقت الذي توجه الاتهامات فيه للمنظمة تتفاقم الأزمة الإنسانية في غزة حتى أصبحت الأكثر حدة في العالم مع تشريد 85 بالمائة من سكانها البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة والتسبب في تضوّر أعداد كبيرة منهم جوعا وإصابة آخرين بالمرض. * أقدم المنظمات الإغاثية وتُعتبر المنظمة من أقدم المنظمات الإغاثية إذ تأسست بقرار من الجمعية العمومية للأمم المتحدة في العام 1949 أي بعد عام واحد من احتلال فلسطين. وحُدّدت دوائر عملها بالضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة والأردن ولبنان وسوريا حيث يتواجد اللاجئون الفلسطينيون. وعند تأسيسها كان الأمل أن ينتهي عملها بعد أن يتم التوصل إلى حل دائم للقضية الفلسطينية الأمر الذي لم يحدث بعد ثلاثة أرباع القرن. لقد سقطت ذرائع بعض الدول المانحة لوقف الدعم عن المنظمة التي تحتل مكانة القلب في جميع أعمال الإغاثة في غزة بموظفيها البالغ عددهم 13 ألفا في القطاع وبمراكزها الطبية ومدارسها التي يُستخدم كثير منها الآن كملاجئ مكدسة ومراكز لوجستية. فإذا استمرت معاقبتها فسوف تتفاقم الأزمة الإنسانية بشكل مروّع وسيلاحق العار من تسبب في ذلك. وعلُقت نحو 15 دولة من أهم المانحين للوكالة ومن بينهم الولاياتالمتحدة وألمانيا التمويل بسبب مزاعم إسرائيل. وأحدث ذلك الموقف أزمة للمنظمة. فقالت جولييت توما المتحدثة باسم أونروا أن نحو 440 مليون دولار معرضة للخطر. وقالت منظمة أكشن أيد الخيرية أن قرار تعليق التمويل من هذه الدول يعادل حكما بالإعدام على الفلسطينيين . وثمة استغراب واسع لقرار وقف المنح عن المنظمة اعتمادا على ادعاءات المتحدث باسم الحكومة الإسرائيلية إيلون ليفي أونروا بالعمل كواجهة لحماس . وقال أن المشكلة ليست في بعض العناصر الفاسدة بل في الفشل المنهجي في معالجة الاتهامات بدعم التطرف في صفوفها. وقبل أسبوعين أمرت اونروا بإجراء مراجعة مستقلة للتأكد من حقيقة الادعاءات التي تطال أونروا وموظفيها. وليس معلوما متى ستنتهي المراجعة والتحقيق ولكن المعلوم أن ضحايا العدوان الإسرائيلي سيدفعون ثمن التواطؤ الغربي مع الاحتلال بوقف المنح وأن المجاعة قد بدأت تشق طريقها إلى مخيمات اللاجئين خصوصا في غزة وأن الأمراض بدأت تتفشى نتيجة توقف الدعم من جهة وتدمير إسرائيل أغلب مستشفيات القطاع في واحدة من كبريات جرائم الحرب. أما منظمة الصحة العالمية فقد حذر مديرها العام تيدروس أدهانوم جيبريسوس يوم الأربعاء الماضي من أن وقف التمويل لأونروا ستكون له عواقب كارثية على سكان قطاع غزة الذي دمرته الحرب. وقال: إن خطر المجاعة مرتفع ويتزايد كل يوم مع استمرار الأعمال العدائية وتقييد وصول المساعدات الإنسانية . وأضاف: كل شخص يتحدث مع فرقنا يطلب الأغذية والمياه . إن عرقلة عمل منظمات الإغاثة وسيلة قمع أخرى موجهة لأهل فلسطين لحملهم على الاستسلام للاحتلال وهذا لن يحدث. والواضح أن تأثير الولاياتالمتحدة على الدول المانحة واسع جدا. فواشنطن هي التي تتصدى للمنظمات والهيئات الدولية التي تسعى لمعاقبة إسرائيل بما تقترفه من جرائم بحق الفلسطينيين. فلم يسلم أحد من الضغوط الأمريكية. ألم تعلن واشنطن في أكتوبر 2018 انسحابها من مجلس حقوق الإنسان في إثر انتقاد المجلس سياسة فصل أفراد العائلات اللاجئة لأمريكا عن بعضهم بعد وصولهم الولاياتالمتحدة؟ وبعد إصداره تقارير تفضح الانتهاكات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة؟ لقد كانت أمريكا مستعدة لتدمير ذلك المجلس لأنه كشف بعض الحقائق عن الجرائم الإسرائيلية. وفي سبتمبر 2018 أوقفت الولاياتالمتحدة كل التمويل الذي كانت تقدمه لمنظمة أونروا نفسها في قرار أجّج التوتر بين القيادة الفلسطينية وإدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. وفي أكتوبر 2011 قررت الولاياتالمتحدةالأمريكية وقف مساهماتها المالية في منظمة الأممالمتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو) وذلك بعد قبول هذه الأخيرة عضوية فلسطين في حين انتقدت إسرائيل وحليفتها أمريكا حصول فلسطين على هذه العضوية واعتبرتا أن ذلك سيؤثر على مسار السلام الفلسطيني-الإسرائيلي. ويحظر قانونان أمريكيان اعتمدا في مطلع التسعينيات تمويل أي وكالة تابعة للأمم المتحدة تقبل فلسطين دولة كاملة العضوية. وفي ماي 2015 هددت واشنطنالأممالمتحدة بوقف التمويل الذى تقدمه لها إذا وضعت شروطا ضد إسرائيل لصالح فلسطين. يومها أعلن السيناتور الأمريكى ليندزي غراهام أن الكونغرس سيعمل على وقف التمويل الذى تقدمه الولاياتالمتحدة للأمم المتحدة إذا حاولت الهيمنة على العملية السلمية بين الجانبين الإسرائيلى والفلسطينى. هذه السياسات الأمريكية ساهمت في إضعاف العمل الدولي المشترك وجعلت المصالح الإسرائيلية معيارا لمواقفها إزاء المنظمات الدولية. فهناك رأي عام دولي لا يقر الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين كمبدأ ولا سياساته تجاه الفلسطينيين في الوقت الحاضر وهذا يهدد كيان الاحتلال بحجب الشرعية عنه وربما التعامل معه الأمر الذي لا يروق لأمريكا التي احتضنت الاحتلال وتستمر في الدفاع عنه ليس عسكريا وأمنيا فحسب بل سياسيا كذلك.