إن من بين المسائل التي لا يزال العقل البشري يحتار في تفسيرها هي تلك التي تتعلق بالغيبيات خاصة عند الحديث عن عالم آخر يوازي عالمنا نحن البشر، عالم يثير فينا مجرد الحديث عنه رهبة واضطرابا كبيرين هو عالم الجن الذي نؤمن - حتما - بوجوده لكننا لا نزال نجهل أبعاده وما مدى إمكانية اتصاله بعالمنا نحن البشر، خاصة عند سماعنا لقصص وحكايات تحدثت عن تشكل الجان في صورة الإنسان فما مدى صدق ما رواه بعض الناس من أنهم شاهدوا امرأة نصفها إنسان ونصفها الآخر حيوان... وما حكاية الحمام الذي شوهد فيه أكثر من مرة أناس لهم سيقان ماعز... هي حكايات وأخرى خلقت أسئلة لا شك أن الكثير منا طرحها على نفسه، كما لا شك أن الكثير منا لم يجد لها أجوبة مقنعة، وقد حاولنا الاقتراب أكثر من الحقيقة فكان أن تنقلنا إلى بعض الأماكن بحيث قابلنا فيها بعض العينات قبل فتح هذا الملف لابد علينا التذكير أننا حاولنا قدر الإمكان نقل الوقائع كما رواها لنا أصحاب المناطق التي زرناها، كما كان لابد علينا أن نستشير رأي الدين في القضية حتى تتبين صحة تلك الوقائع، خاصة وأن جميع من كان بطلا لتلك الأحداث قد توفي بعدها ليترك وراءه قصة تتداولها الألسن وتحتار فيها العقول... كانت بداية تحقيقنا من شرق البلاد وتحديدا من ولاية سطيف التي تحدث سكانها وتناقل زائروها قصة المرأة التي ظهرت لبعض الأشخاص - وكما روى هؤلاء بشكل يجمع بين صورة إنسان في النصف العلوي وأرجل ماعز في النصف السفلي وسببت للناس هلعا وخوفا كبيرين، حيث كانت وراء حوادث راح ضحيتها الكثيرون حتى أنها ولذيع صيتها لقبت بالمرأة الروحانية، وبعد سماعنا للعديد من الروايات متباينة التفاصيل وجدنا أنفسنا أمام حقائق ومبالغات لم نشأ معها إلا تحري الحقيقة كاملة والتي أدركنا أننا لن نصل إليها إلا بالتنقل إلى المنطقة والتحدث إلى سكانها - ولما لا - ممن كانت لهم علاقة مباشرة بتلك الحوادث، وقد علمنا منذ الأول أن مهمتنا ستكون صعبة خاصة وأننا أمام موضوع لا يحبذ الكثيرون الخوض فيه وحتى لا نقابل برفض البعض وتحفظ البعض الآخر كان لابد أن نصطحب معنا من يكون ابنا للمنطقة حتى يسهل علينا مهمتنا وكان لنا ذلك حيث رافقنا طارق وهو صديق لنا اعتاد التنقل بين ولايات الوطن، كما كان نفسه ملما بشيء من الموضوع فأفادنا ببعض المعلومات التي كانت لنا نقطة البداية... توجهنا إلى الطريق الوطني رقم 5 أين سمعنا عن تلك الحوادث المأساوية من تقلب للسيارات والشاحنات بغير سبب منطقي، وفيما كنا في السيارة راح طارق يحكي لنا ما علمه من أمر تلك المرأة وما نسج عنها من حكايات.. غير أننا توقعنا أن ما قصه علينا طارق ماهو إلا حلقة ضائعة من سلسلة طويلة فلا بد إذا من سماع شهادات عدة حتى نستطيع الربط بين الأحداث وتبين الصادقة من الكاذبة، وهكذا فعلنا فمع وصولنا إلى المنطقة قصدنا أصدقاء لطارق ومقربين منه فأفادنا بعضهم بمعلومات لتصير بحوزتنا مجموعة قصص شدتنا منها حادثة يونس الذي راح ضحية للمرأة الروحانية ومات أسبوعا بعد ملاقاتها. اعتاد يونس أن يستعمل الطريق الرابط بين برج بوعريريجوسطيف فهو سائق لعربة نفعية يحمل البضائع ويتنقل بها بين الولايتين، وفي ليلة شتاء ماطرة وفي طريق عودته إلى سطيف تفاجأ يونس برؤية فتاة شقراء جميلة أنيقة - وكما وصفها أهل المنطقة -باهية - تلبس فستانا أحمر وشالا أبيض مصنوعا من الفرو وتنتظر من يقلها، ولأن المكان كان خاليا وموحشا توقف يونس بعد تردد لمساعدتها، وبعد أن سألها عن وجهتها وعلم أنها نفس الوجهة التي يقصدها سمح لها بالصعود وانطلق بها إلى سطيف، ورغم استغراب يونس من وجود فتاة وحيدة في مثل ذلك المكان وتلك الساعة إلا أنه لم يجرؤ على سؤالها إلى أن بادرته هي بالحديث، فطرحت عليه بضع أسئلة لم يدرك ما وراءها، حيث سألته إن كان يستعمل هذه الطريق دائما وإن كان على معرفة جيدة بالمنطقة وإن صادفته فيها حوادث غريبة من قبل.. وقد بدت هذه الأسئلة ليونس غريبة ولم يكن يعتقد أن ما ينتظره سيكون أغرب بكثير، فمع تقدمه في الطريق تفاجأ بمنظر لم يعتد رؤيته من قبل، حيث وجد نفسه في قرية بها سكان وبيوت وأسواق ومحلات وطرق وسيارات في بقعة كانت خالية مقفرة حينئذ راح يونس يقلب نظره بين القرية ومرافقته عله يجد على وجهها ما وجده في نفسه من دهشة واستغراب، غير أن الفتاة لم تلق بالا لأسئلته الصامتة وطلبت منه أن يوقف العربة لإنزالها وينصرف لشأنه وأن لا يحكي ما شاهده لأحد، وكاد يونس يغمى عليه عندما نزلت الفتاة وانتبه إلى أن رجليها يشبهان رجل الماعز، وأمام موقف كهذا لم يدرك يونس ما يفعله إلا أن ينطلق هاربا بسيارته متجها إلى قريته. بقي يونس بعد تلك الحادثة في منزله حبيسا لمخاوفه وتخيلاته وكاد يجن لولا أنه راح يستأنس بذكر اللّه وتلاوة كتابه حتى اطمأنت نفسه فخرج إلى الناس ولاقاهم كما فارقهم متزنا فلم ينكروا من أمره شيئا، إلا أنه سرعان ما تجاهل وصية المرأة له فحكا بتأثر واضح قصته معها وما سمعه وما رآه من غريب أمرها وأمر تلك المدينة، وكان يزداد شحوبا كلما قص حادثة من تلك الحوادث التي عاشها، وكان حديثه هذا الذنب الذي لا يغتفر فقد وجد ميتا في بيته أسبوعا بعدها وجثته مغطاة بجلد الماعز ولا يظهر منها إلا القدمين، ولأن أحدا لم يتوصل لمعرفة سبب وفاته فقد اتفق الجميع على أن لحديثه علاقة بموته وأن ما رواه لم يكن تخيلات أو أكاذيب، ووصل الخوف ببعض ممن كان يستعمل تلك الطريق أن يتجنبها مستقبلا كما صارت حكاية يونس قصة تتناقلها الأجيال... ليست قصة يونس فريدة من نوعها فقد رويت حكايات أخرى مشابهة ومنها تلك التي حدثت لسليمان هذا الأخير الذي قيل بأنه كان يقود عربة لنقل البضائع عندما رأى فتاة من بعيد في لباس مغري ينم عن مفاتنها، فحسب في الأول أنها إحدى بائعات الهوى اللائي يقفن عادة في الطرقات لعرض أجسادهن ولم يتردد سليمان في التوقف حين رآها تشير له بأن يفعل، غير أنها اكتفت بأن طلبت منه أن يوصلها ففعل، كما اشترطت عليه أن يسمح لها بالجلوس في الخلف فوافق، وما أن انطلق وإياها حتى طلبت منه بلهجة الأمر بأن لا يلتفت خلفه ولا حتى ينظر إلى الزجاج الخلفي بحجة أنها تغير ملابسها، وقد بدا هذا الطلب لسليمان غريبا حتى أنه لم يستطع منع نفسه من إلقاء نظرة إلى الخلف ففعل وكانت العاقبة وخيمة، حيث رأى منظرا أفقده التحكم بعربته إذا انتقل إلى الطريق المعاكس حيث قابلته سيارة حاول تجنبها فلم يستطع انقلبت به المركبة ما أدى إلى إصابته بجروح بليغة لم يفق على إثرها إلا في المستشفى أين راح يحكي ما أصابه والأمر الذي جعله يفقد التحكم في السيارة، حيث تحدث عن مشاهدته لامرأة لها ساقا ماعز هذا قبل أن تصيبه نوبة جعلته يعاني من اضطرابات نفسية حادة ألزمته المستشفى طيلة حياته. من أغرب القصص التي سمعناها لم تكن من سكان المنطقة فحسب بل حتى قبل انطلاقنا في تحقيقنا هذا، وهي قصة ذلك الحمام الذي حدثت فيه بعض الظواهر الغريبة، حيث تحدث بعض ممن ارتادوه عن مشاهدتهم لأناس لهم سيقان ماعز، ومع استفسارنا أكثر علمنا أن لهذه القصة تاريخا يعود إلى فترة الاستعمار، حيث كان هذا الحمام ملكا لمستوطن يهودي كان يوظف رجلا يدعى الباهي له ابنة وحيدة اسمها زهيدة، وقد أصبح الباهي مالكا للحمام بعد أن نالت بلادنا استقلالها وخرج المستوطنون منها، غير أنه مر بفترة عصيبة جعلته يستدين مبلغا ماليا لم يعرف كيف يسدده فيما بعد، ولأنه لم يشأ التخلي عن ذلك الحمام فقد فضل بيع تيس (عتروس) كان يملكه ليسدد به دينه، إلا أن ابنته عارضت وبشدة فكرة بيع التيس لما له من معزة على قلبها، وترجت والدها ألا يفعل ومع إصرار الأب ويأس البنت فضلت هذه الأخيرة أن تفارق تيسها فراق موت لا فراق حياة، فذبحته وقتلت نفسها بعده.. وعاد الأب مساء ليرى منظر ابنته عند مدخل الحمام غارقة في دمائها والتيس مقتول أمامها فهاله المنظر وجعله يصاب باضطراب نفسي، كما بلغ به الحزن مبلغا جعله يقرر العودة إلى قريته لولا حادثة وقعت له منعته من ذلك، فبعد وفاة زهيدة بأسبوع وبينما كان الباهي داخل الحمام للمرة الأخيرة سمع وقع حوافر من ورائه تتجه نحوه ولما استدار تفاجأ بأن رأى ابنته واقفة أمامه، ارتبك حينها ولم يصدق الأمر وسألها فيما إذا لم تكن ميتة وعن صوت الحوافر الذي سمعه فسألته بدورها بصوت مبحوح إن كان نفس الصوت الذي تحدثه سيقان مثل هذه، وكشفت له عن رجليها ليصادف بهما أرجل ماعز، فسقط الأب المسكين مغشيا عليه ليجد نفسه في المستشفى يروي بآلم ما حدث له، غير أن حكاية الحمام هذه لم تنتهي عند هذا الحد بل إن كثيرا ممن ارتاده بعد تلك الواقعة تحدث عن مشاهدته أو سماعه لأصوات تشبه تلك التي تصدرها حوافر الماعز، وظل الناس بعدها بين مصدق للقصة ومكذب لها الأمر الذي لم يمنع انتشارها وتحدث الناس عنها حتى بعد سنين من حدوثها. وإن بدت هذه الوقائع لبعضكم ضربا من الخيال فإنه من الروايات المستندة تلك الحادثة التي وقعت للعوام بن الحوشب الذي روى بأنه نزل مرة إلى حي وكان بجانب ذلك الحي مقبرة ينشق منها قبيل عصر كل يوم قبر يخرج منه رجل له رأس حمار وجسد إنسان فينهق ثلاث نهقات يم ينطبق عليه القبر، ولما سأل بن الحوشب عن صاحب ذلك القبر قيل له بأنه رجل اعتاد شرب الخمر والسهر إلى الفجر حتى إذا ما دخل بيته قابلته أمه بالنصيحة والدعاء فيقول لها إنما أنت تنهقين مثل ما ينهق الحمار، وبعد موته ودفنه صار إلى ما صار إليه وكذلك فإن للدين رأيه في كل هذه الحوادث. وعن مدى صحة هذه الروايات كان لابد علينا أن نستشير (ع. و) إمام خطيب سابقا بمسجد بن عكنون بالعاصمة والذي قال لنا »إنه لمن صفات أهل الإيمان التسليم بالغيب ومن أمور الغيب التي جاءت الشريعة بتقريرها ما تعلق بعالم الجن لأنهم يرون بني ادم ولا يراهم بنو ادم كما قال اللّه تعالى »انه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم«، ولما كان كذلك فإن المعول عليه في معرفة حقائق الجن وحياتهم هو النقل كتابا وسنة والجان خلقهم اللّه من نار وجعل لهم قدرة على التشكل فيتشكلون في صور حيوانات ويظهرون في أشكال مختلفة ويراهم الناس على تلك الحال، فعن أبي ثعلبة الخشني أن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال »الجن ثلاثة أصناف فصنف لهم أجنحة يطيرون بها في الهواء وصنف حيات وكلاب وصنف يحلون يظعنون« ومنه كذلك ما ثبت عن أبي هريرة لما وكله النبي (صلى اللّه عليه وسلم) بحفظ زكاة رمضان أتاه شيطان في صورة إنسان يأخذ من الصدقات وكذلك القصة التي وقعت لأبي بن كعب فقد كان له جرن من تمر وكان ينقص يوما بعد يوم فحرسه ذات ليلة فأتاه غلام محتلم سلم عليه فرد السلام وقال ما أنت جني أم انسي قال جني قال فناولني يدك فناوله يده فإذا بها يد كلب وشعره شعر كلب. للإشارة فإن هذه العينات التي نقلناها لكم ماهي إلا غيض من فيض، فقد سمعنا عن حالات مشابهة في مناطق متفرقة من الوطن وخاصة الغريبة منها إلى درجة أن كثيرا من الناس صاروا يتجنبون الطرقات السريعة والمظلمة والتي كثرت حولها مثل تلك القصص الغريبة، وعلى هذا فإن الروايات التي تطرقنا إليها لا يمكن تكذيبها كما لا يمكن تصديقها وإنما الأصح تصنيفها في خانة المحتمل وقوعه، غير أنه لابد من الإشارة إلى أن بعض الحكايات فيها الكثير من المبالغات الطريفة من مثل ما حكى أحدهم من أنه رأى كائنا نصفه إنسان ونصفه الآخر ضباب أو آخر ذهب إلى أبعد من ذلك حين ادعى رؤية حورية البحر الخرافية.