الجزء الأول بحث مسلسل بقلم: الدكتور جيلالي بوبكر مقدمة يتناول البحث التراث من حيث مفهومه ومستوياته وقيمته، خاصة في المجتمعات التاريخية التراثية التي يمثل فيها التراث عصب الحياة المادية والروحية، بشقيه المادي واللامادي. وأمام تعدد وتنوع النماذج المجتمعية في صلتها بالتراث يُقدم النموذج البنائي التجديدي الإحيائي على نحو يحفظ شروط قيام هذا النموذج بعيداً عن النموذجين النموذج التراثي البحت والنموذج اللاّتراثي الصرف. أما صلة التراث بالعمل السياسي في المجتمعات النامية فتقوم على صلة الحاكم بالمحكوم، والتراث سلطة في نفوس الناس والعمل السياسي تطوير للمجتمع ونقله من حال إلى حال ومن فترة تاريخية إلى أخرى، وهو ذلك الذي يشمل التغيير في كافة قطاعات المجتمع، فالتراث العلمي متمثلا في الأقسام العلمية الثلاثة النقلي والعقلي والعقلي النقلي له أثره الملموس على العمل السياسي قديماً وحديثاً. فقراءة التراث ونقده وإعادة صياغته ومحاولة إعادة بنائه وفق ما تتطلبه حاجات العصر هو الذي يكفل توظيف التراث إيجابياً وبفعّالية في بناء الحاضر والتطلع للمستقبل، وهي مهمة الكثير من المشاريع الفكرية والسياسية متجاوزة النمط التراثي والنموذج اللاتّراثي. أ- التراث مفهومه ومستوياته يكثر الحديث عن التراث أو الموروث أو الماضي أو التاريخ في المجتمعات البشرية، لأن التراث يشكل فيها عنصراً حيّاً تقوم عليه حياتها في الحاضر ويستمر في المستقبل، دون أمل في التجرد منه أو تجاوزه في كل الظروف والأحوال، لأن ميزة المجتمع البشري عن غيره من المجتمعات الأخرى الجامدة والحية هي ارتباطه بالتراث يحتفظ به ويدوّنه فيتناقل من جيل إلى آخر. لذا اتصل تاريخ الإنسان بعلوم الحفريات والنقش والآثار، وسجّل الإنسان أعماله في سجلات فصار المخلوق الوحيد الذي له ماض مدون وله تاريخ، فالتاريخ عند الإنسان مدوّنة حياته وانعكاس لذاته ولأفعاله وهو ما أثبتته فلسفة الحضارة. المجتمع البشري الذي له ماض وتاريخ وحضارة نمطه الأول بدائي بحت وتراثي صرف، التراث في هذا المجتمع هو الماضي والحاضر والمستقبل، هو نمط الحياة في الفلسفة والدين والفن وسائر الأعمال اليومية، فهو البديل عن كل شيء، وهو مجتمع يندر فيه التغيير الاجتماعي إلا حالات عفوية بعيدة عن القصد ومرتبطة بوسائل وأدوات تفتقر إلى الطابع الفكري المنطقي والعلمي. أما النموذج الثاني فهو المجتمع المدني الغربي الحديث، مجتمع قطع صلته بالتراث فهو لا تراثي، وقد كان التراث في هذا المجتمع قديماً يشكل ماضيه وحاضره ومستقبله، ولما حصل التعارض بين هذا التراث والعلم الحديث والحياة العصرية تخلّى المجتمع الغربي عن التراث وأخذ بكل جوانب العلم الحديث والثقافة المتطورة، وذلك بعد صراع طويل بين أنصار القديم وأشياع الجديد. والنموذج الثالث يخص المجتمع النّامي الذي تحرّر من الاستعمار حديثاً فهو في وضعية انتقال بين القديم والجديد، فهو يعيش قضية الأصالة والمعاصرة، التقليد والتجديد، الوافد والموروث، جدل الأنا والآخر، فهو بين الانقطاع والتواصل، (وهي مجتمعاتنا التي لم تُحسم فيها القضية بعد والتي تُثار فيها قضية التراث والتغيير الاجتماعي فهي مجتمعات تراثية تشارف على العصر بعد أن جابهت الاستعمار وحققت الاستقلال الوطني وبدأت التنمية الاجتماعية الشاملة). إنّ المجتمع التراثي في النموذج النامي المتحرر حديثاً صاحب الاستقلال الوطني الحديث يتعاطى مع التراث بكيفية أفرزت اختلالات كثيرة. فالتراث عنده غاية في ذاته، وليس وسيلة لاكتمال التحرر والوصول إلى تنمية شاملة محكمة، فالتراث هنا ليس جزءاً من الواقع بل خارج الواقع، (ويكون بديلاً عن الواقع، يطرد الواقع الحالي، ويُحل محلّه الواقع التراثي ويتم الخلط بين ما ينبغي أن يكون وما هو كائن... فالتراث لا يقبل واقعاً من خارجه يندّ عنه أو يهرب منه ويثور عليه. التراث ملزم ومشروع وقادر على احتواء كل شيء خارجه. التراث هو الذات والموضوع، الأنا والغير، الروح والمادة، مغلق على نفسه لا يمكن النفاذ إليه)، وهو بهذا المعنى وحدة لا تتشتت وكل لا يقبل التجزئة والانقسام، وكامل لا بداية له ولا نهاية فهو حقائق مطلقة نقلت من الزمان والمكان، تظم الزمان وتحتوي المكان. (فتمّ التنكر للحاضر كلية وتمّت التضحية بأصول الفقه في سبيل أصول الدين وغلبت العقيدة على الشريعة، وأصبح أصحاب التراث معبرين عن مبدأ أكثر منهم عاملين في الواقع ومغيّرين له... الواقع كله مُدان، ولا يمكن تطويره أو إصلاحه بل هدمه من الأساس حتى يبدأ البناء الجديد على أسس راسخة... ولما كان الواقع باقياً والحياة قائمة كأن الهدم لا ينتهي حتى يبدأ البناء ومن ثم يبدو التراث عدائياً للواقع رافضاً له، خارجاً عليه، سرعان ما ينتهي أصحابه بتدمير أنفسهم والواقع باقٍ لم يتغير والمجتمعات تندم وتتحسر على هذه الطهارة الضائعة الخاسرة. ولما استعصى الواقع طال الهدم ولم يأت البناء فظهر السلب دون الإيجاب والرفض دون القبول).