بقلم: فهمي هويدي لم تمض 24 ساعة على إعلان مبادرة وقف العنف في مصر حتى انفجر العنف مرة أخرى بصورة بدت أشد مما سبق، وهي مفارقة لها ثلاث دلالات على الأقل. الأولى أن العنف لا يتوقف ببيان يعلن على الملأ عبر وسائل الإعلام، ولكن له أسباب كامنة على الأرض يتعين علاجها. الدلالة الثانية أن الذين وقعوا على الوثيقة باعتبارهم يمثلون النخبة السياسية في مصر لا سلطان لهم حقيقيا على الأرض. ولكنهم هم الذين فرضوا أنفسهم على الشارع واعتلوا منصة الخطابة فيه. وقد سبق أن قلت إنهم زعماء افتراضيون نصبوا أنفسهم في الفضاء مستعينين في ذلك بوسائل الإعلام. آية ذلك أننا لم نلمس استجابة من أي نوع لندائهم، الذي بدا نوعا من التعبير عن الأمنيات والنوايا الطيبة لدى الذين أعدوه والذين وقعوه، بأكثر منه تحريكا للشارع وتأثيرا عليه. أما الدلالة الثالثة فإنه كان متعذرا التفاعل مع وثيقة وقف العنف، ولو حتى من باب مجاملة شيخ الأزهر الذي رعاها و(الرموز) التي وقعتها، في الوقت الذي تستمر وسائل الإعلام في تعبئة الناس وتحريضهم على الاشتباك مع السلطة صباح مساء. الأمر الذي بدا فيه إطلاق الوثيقة باعتباره من قبيل التغريد خارج السرب. إن العبرة التي ينبغي أن نستخلصها مما جرى أن فكرة وقف العنف التي نتعاطف معها ونرحب بها خصوصا أنها ظاهرة جديدة على سلوك الشعب المصري تعد علاجا لمشكلة قبل تشخيصها وتحرير أسبابها. وهو في ذلك أقرب إلى منطق وضع العربة أمام الحصان. ولذلك تمنيت أن يسبقها جهد آخر للتشخيص الذي يتحرى أسبابه والعوامل أو العناصر التي تقف وراءه. وبناء على ذلك التشخيص يجري التفكير في العلاج. وبالمناسبة فإننا لا نستطيع أن نعفي السلطة من التقصير في هذا الجانب. ومن الواضح أنها اعتمدت في تعاملها مع العنف على الإجراءات وليس السياسات. وهو ذات المنطق التقليدي الذي يعتمد على قوة السلطة وعضلاتها، لكنه لا يعتمد على عقلها وإدراكها لمجريات الأمور في المجتمع. كانت تلك هي الملاحظة الأولى. أما الملاحظة الثانية فهي تنصب على المشهد المروع الذي تابعناه ليلة الجمعة، الذي رأينا فيه أحد المواطنين وقد تم سحله والتنكيل به وهو عار تماما بعدما مزقت ثيابه، في أثناء الاشتباكات التي وقعت أمام قصر الاتحادية، وهو مشهد يجلل بالعار سجل وزارة الداخلية ويشين النظام القائم برمته إذا سكت عليه ولم يتعامل معه بمنتهى الحزم والشدة. دعك من الفضيحة العالمية التي أحدثها بث تلك الصورة، الأمر الذي سيظل وصمة ونقطة سوداء في جبين النظام القائم بعد الثورة، بل في جبين الربيع العربي. في ذات الوقت فإنه يمثل هدية مجانية ثمينة للذين يسعون إلى تخويف الناس في العالم العربي خاصة وتنفيرهم من الربيع وتداعياته. إذا قال قائل بأن الربيع العربي حرر الإنسان من سلطان الاستبداد وسلحه بالجرأة والاعتزاز بكرامته والإصرار على مطالبته بحقه، فلن اختلف معه في شيء. وربما جاز لي أن أضيف إليه قرائن أخرى تؤكد أنه يمثل نقطة تحول في التاريخ العربي المعاصر. لكنني أذكر بأن النقطة السوداء تظل أكثر ما يلفت الأنظار في أي ثوب مهما كان بياضه. رغم مسارعة وزارة الداخلية إلى الاعتذار عما حدث والتحقيق مع المسؤولين عنه، فإن الحادث يثير ثلاث نقاط هي: أنه ثمة ثقافة في أوساط الشرطة ينبغي أن تتغير. صحيح أن خمسة وزراء للداخلية تعاقبوا المنصب خلال السنتين اللتين أعقبتا الثورة، إلا أن التغيير شمل الأفراد ولم يشمل الثقافة بعد. بدليل أننا لم نلمس حتى الآن تغييرا جوهريا في تعامل الشرطة مع المجتمع بعد الثورة. لا أنكر أن ثمة تغييرا نسبيا إصلاحي وبطيء في الأغلب إلا أنه يظل دون المستوى الذي يعبر عن حدوث ثورة في البلد. لا أستطيع أن أتجاهل الإنهاك والضغط وربما قصور الإمكانيات لدى أجهزة الشرطة، لكن ذلك كله لا يبرر لا سحل مواطن عار ولا قتل متظاهر غاضب. أن المرء لا يستطيع أن يخفي دهشته إزاء العجز عن التعرف على الجهة أو الأطراف التي تسعى إلى إشاعة الفوضى وإطلاق الرصاص على المتظاهرين السلميين، وقد قيل لي ممن يعرفون أكثر مني أن الداخلية تقف وحدها في مواجهة هذه الظاهرة، وإنها في مسيس الحاجة إلى تعاون الجهات الأخرى المسؤولة لكي تمسك بخيوط تلك المحاولات الخبيثة وفك ألغازها. أن الدهشة تستمر أيضا بل تتضاعف إزاء سكوت القيادة السياسية إزاء الحدث، الذي ينبغي ألا يفهم بحسبانه عدوانا من الشرطة على بعض المتظاهرين، لأنه في جوهره عدوان من السلطة على المجتمع. لأن إهانة مواطن بتلك الصورة البشعة، أو بأي صورة أخرى، هو عدوان على المصريين جميعا لذا لزم التنويه.