بقلم: عبد الوهاب العمراني في رؤية أبو علم الاجتماع ابن خلدون لمراحل نشوء الدولة وانهيارها، فقد وصفها كالإنسان تشب وتكبر وقد تتوسع وفي أوج قوتها يبدأ الترف والرفاه على الحاكم فيبدأ الملك بالتراجع والوهن، وفي أواخر عهدها تشيخ عندما يدب الفساد ويحكمها أراذل الناس ..، نحن في اليمن منذ عشرينات القرن الماضي لم نصل حتى لدولة ولهذا فحتى نظرية عالم الاجتماع ابن خلدون لا يمكن إسقاطها على الحالة اليمنية لأننا لم نصل يوما ما إلى ما يسمى دولة أصلا! أما في حالة محاولة إيجاد مقاربة في رؤية علماء الاجتماع والساسة عموما وفي تحليلنا المتواضع لما آلت إليه الأوضاع المزرية في الحالة اليمنية فربما يقف هؤلاء مكتوفي الأيدي وقد تصل تحليلاتهم إلى أفق مسدود لشدة تعقيد الحالة باختلاط الأوراق، والخصوصية اليمنية التي ميزته عن بقية بلدان الربيع العربي، ففي أبجديات سياسة الدول داخل أوطانها وتأثيرها وتأثرها بالعامل الخارجي هو عبارة عن تفاعل وتناغم المحدد الداخلي ونشاط أي نظام مع مؤسساته ومواطنيه بسياسته الخارجية، وفي حال كانت العلاقة طبيعية فأنه حتماً يمتلك الأرضية القوية والرؤية المستقبلية لمشروع نهوض داخلي متزامنا مع علاقات خارجية تستند لتمساك الجبهة الداخلية وهو الأمر الذي ينعكس بداهة في العلاقة الجدلية بين المحددين فيعزز كل منهما الآخر وهذا ما تفتقده الدولة اليمنية منذ إعلان وحدتها لأنها غدت فقط مجرد نصوص وتشريعات ودستور على الورق، فحالات عدم الاستقرار لازمت اليمن حيناً من الدهر، فالصراع الداخلي بين شطريه وحتى بعد وحدته في العام 1990 غدا السمة البارزة وأدت إلى ارتهان القرار اليمني للخارج، صحيح أن اليمن غدا مرهون الإرادة والمصير جراء الإدارة السيئة للنظام السابق والذي حول اليمن لمزرعة خاصة للمتنفذين، وطبق مقولة (فرق تسد) فزرع بؤر فتن ليشغل البعض بالآخر لضمان بقائه وإظهاره بصورة المنقذ للخلافات بين مكونات الشعب، ولهذا عاش اليمن خلال ثلث قرن في أسوأ مراحله ولاسيما بعد حرب 94 وما أعقبها من حلم التوريث وهو الأمر الذي أدى إلى إذكاء حدة الخلاف بين مكونات النظام السابق من مراكز القوى العسكرية القبلية والتي لازالت تتصدر المشهد السياسي الحالي، فلو كان هناك دولة مدنية حقا مُنذُ إعلان الوحدة قبل أكثر من عشرين عاما لما حصل كل هذا، ولما وصل اليمن لهذه الحالة المأساوية، ولربما كان النظام الحاكم حاكما بحب ورضاء الشعب وليس بقوته المادية وشراء الذمم، أو لكان خرج من السلطة بسلاسة وليس بمبادرات وتدخلات خارجية. المواطن البسيط والمحلل الحفيص يدرك بأنه قد اتيحت لرئيس النظام السابق فرصة بناء دولة في عدة محطات زمنية ولاسيما بعد حرب 94 وذلك زمناً ومالا ودعم دولي لم تتاح لغيرة منذ قرون. وعلى خلفية توقيع اتفاقية من قبل اللجنة المصغرة في الحوار التي من المؤمل أن تفتح الباب لحل القضية الجنوبية، ورغم اللغط حول ما ستسفر عنه تلك الاتفاقية إلا أن هناك من يتباكى على الوحدة من هذه المكونات المتحالفة بالأمس المختلفة اليوم ليست من نوايا وطنية ولا حبا في استمرار الوحدة ولكنه المؤكد أنه حق أريد به باطل. ما يقارب القرن مضى على تأسيس الدولة اليمنية وأكثر من نصف قرن على ثورتي اليمن سبتمبر وأكتوبر وما يقارب الربع قرن على وحدة اليمن ولتي لازمها قيام ديمقراطية وتعددية، ففي هذه الأزمنة الطويلة لتعاقب الأنظمة في اليمن خلال ما يقارب القرن قامت دول لها صولات وجولات بمشاريع ورؤى مستقبلية ولكننا في اليمن نرى النتيجة المؤسفة حقا، فلا نظام جمهوري بل كان يتجه عشية اندلاع الثورة الشعبية للتوريث وتمركز الحكم في أقلية قبيلة أو جهة معينة أو المؤسسة العسكرية، ولا وحدة فهاهي مهددة بالتفكك لكيانات باسم الفدرالية، فمثل هذه المشاريع هي نتيجة لوأد الوحدة في مهدها بعقلية الإقصاء لشركاء الوحدة، وفي ظل الفوضى الإعلامية لا يمكن وصف اليمن بدولة ديمقراطية منذ أكثر من عقدين بل (ديماغوجية) وتدليس من قبل السلطة أو معارضيها من الأحزاب الانتهازية والرأي العام التائه بين الحقيقة المغيبة وضجيج الإعلام الممنهج لدى مراكز القوى، ما يساعد على اختلاط المفاهيم لدى الرأي العام أن البعض أسير للآلة الإعلامية التي تدلس وتضلل الرأي العام ولا زالت بيد النظام القديم، والأعجب أن الغالبية الصامتة أسيرة تلك المفاهيم الخاطئة التي نعيشها اليوم، فلا يستغرب بأن البعض لازال يتغنى بالماضي القريب قبل الثورة الشعبية وكأن اليمن كان في 2011م منافساً لسويسرا في النظام والقانون ورغد العيش، مع أن إخفاقات اليوم هي نتيجة معطيات الأمس بكل تفاصيلها، فالدولة كانت تدار بالتلفون فلم يُؤسس لدولة مدنية ولا لنظام، مقرونا بتخريب كل مؤسسات الدولة وتنصيب المتنفذين، فقد دلت الأحداث في بلدان الربيع العربي بأنه كلما طال زمن الأنظمة الاستبدادية كلما كان محو آثارها صعبا ومكلفا فقيادة هذه الأنظمة بدلا من أن تنفق أموال الدولة في تأسيس دولة نظام والقانون ومؤسسات البحث العلمي ومشاريع خدمية تعود بالنفع لمصلحة المواطن، كانت تستنفذ خزينة الدولة أما في مؤسسة عسكرية فاشلة في ستة حروب آو في أمن للتنكيل بأي حركة احتجاجية أو في هبات وعطايا للمتنفذين وتحويل الوطن بخيراته كمزرعة لهؤلاء، ولحاشية الحاكم المستبد الذي لم يكن يعتمد على المشورة الصحيحة أو ومراكز الدراسات واستطلاع الرأي العام الحقيقي لتضعه في الصورة لما يجري، ومن برج عاجي متعالٍ يعتقد أنه صانع المعجزات، فوهم الإنجازات جعلت منه فرعونا بتمجيد القائد الضرورة فالمجد غير التمجُد وبينهما خيط رفيع هو الإعلام المؤدلج والساسة الانتهازيون الذين ركبوا موجة الثورة، الإشكال والفارق بين التحول في اليمن دون سواها أن أقطاب السلطة من الحرس القديم لا يزالون هم المتصدرون للمشهد السياسي مع خصومهم، فكيف يراد من هؤلاء رسم ملامح المستقبل، وممثليهم هم من يديرون الحوار العقيم منذ ما يقارب العام. اللافت أن البعض من ساسة اليمن الفاشلين لا يقرون بوجود دولة فاشلة والتي تعكس بالضرورة فشل القائمين عليها، ممن كانوا متحالفين بالأمس القريب ويتنازعون على تقسيم كعكة السلطة، فمن الواجب الإقرار بفشل الدولة وإخفاقهم ومن ثم الاعتذار من الفاعلين الأساسيين وليس من الحكومة الحالية التي يعزى إليها فساد ثلث قرن من الفساد والحكم المطلق، ومن ثم يتوارون بناء على الحصانة، وإلا سنضل نحرث في البحر، وعلى ماذا يتصارعون اليوم والوطن يتآكل ويتلاشى وعلى شفاء انهيار كامل اليمن، فعلامات انهيار تلك الدولة اليمنية غدت هي التي تحدد إطار المشهد الراهن في اليمن، وترسم تجاعيده وأخاديده، ففي رؤية لنتائج دراسات بحث ورصد الحالة اليمنية من جهات خارجية يتبين أن أبرز ملامح انهيار الدولة غدت السمة البارزة في هذا المشهد ومنها الحالة الأمنية والتدهور الاقتصادي وترهل المؤسسات والتضخم بتكالب الأمم الخارجية كما (تتكالب الأكلة على قصعتها)! لعل أبرز مؤشرات هذا الإخفاق وعلامات الانهيار هو عجز الدولة عن توفير السلع الأساسية لمواطنيها، وانتشار الفقر والبطالة، ناهيك عن غياب الأمن وعندما يصبح عناصر الفساد هم من يتولون تجارة رزق السواد الأعظم وهنا يفقد النظام شرعيته، ففي الأمم المتحضرة لا يمارس التجارة من يعمل بالساسة، وعندما تصبح الدولة فاشلة عندما تستقطب الإرهاب من كل حدب وصوب وهذا ما حصل في اليمن في السنوات الأخيرة، وتصبح الدولة فاشلة عندما يعم السخط مقرونا بالقلاقل والاستياء المتزايد نحو مراكز القوى من المتنفذين الفاسدين من عناصر الأقلية أو العائلة الحاكمة، وعندما تأخذ أساليب الاحتجاجات والسخط والتمرد والاعتراض الجهوي أو الطائفي مقرونة أيضا بتقرير المصير، وهذا ما يحدث في (صعدة) و(جنوب اليمن)، فالإشكال بين الشعب وحاكمه وليس مع الأرض التي تعاقب بالتقسيم بسكاكين الساسة، وكذلك من مؤشرات انهيار الدولة عندما تتوفر أجواء الحنق العام وبلوغ ذروتها بمؤشرات الحرب الأهلية تلك فقط هي الحقيقة المؤكدة. لعل أسوأ مؤشرات فشل الدولة عندما يضعف شعور وإحساس البعض بالانتماء للوطن ويلوذون بالاحتماء بالقبيلة والقوة والمؤسسة العسكرية وكذلك الطائفة والجهوية أو حتى الحربية، عندما يكون تماسك الحزب ورئيس الحزب أهم من الوطن نفسه، وتداول إشاعة (فوبيا الإقصاء) رغم أنه لازال الحاكم بأمره، وعندما لا تستطيع الدولة الفاشلة السيطرة على كل الوطن وتقتصر على المركز العاصمة، بينما في اليمن حتى العاصمة غدت بطن رخوة للمؤسسة العسكرية يتم فيها حوداث الاختطاف والاغتيال في رابعة النهار!، عندما تكون ممتلكات وحقوق الناس منهوبة وهذا ما يحصل في عموم اليمن ولاسيما المحافظات الجنوبية التي غدت مرتعا للقوى المتصارعة اليوم على كعكة السلطة، وعندما تنتشر المليشيات وقد تكون في لباس المؤسسة الأمنية أو العسكرية وعندما ينتشر الحرس الخاص والمرافقين للوجاهات والشخصيات النافذة، مع الانهيار المؤسسي لهذه الدولة الفاشلة يتولى أصحاب القوة والنفوذ زمام الأمور وتصبح البلاد مرتعا لهم وتصبح الجماعات المسلحة المحسوبة أصلا للدولة المتناحرة هي سيدة الموقف في أرجاء الوطن، وكما قال الكاتب والأديب الرائع الأستاذ خالد الرويشان: (الشعب أصدق أنباء من النُخبِ، والوطن أبقى من الأصنام القديمة والجديدة، الدولةُ أولا أو الطوفان .. وكرامة الإنسان هي من كرامة الأوطان .. والمشكلة متى تقنع الفئران الحاذقة والقطط المتربصة. !؟