حققت اليمن وحدة شطريها في عام 1990 لتكون أول حالة لوحدة اندماجية بين دولتين عربيتين بعد تفكك الوحدة المصرية-السورية في عام 1961، وثاني تجربة وحدوية عربية بعد دولة الإمارات التي أنجزت وحدتها في مطلع سبعينيات القرن الماضي. ومنذ سنواتها الأولى، واجهت الوحدة اليمنية تحديات ومخاطر عدة. فقد بدأت تجربة الوحدة أصلاً بعدم التمكن من دمج جيشي الشطرين الشمالي والجنوبي، وبُنيت على توازن سياسي دقيق يتعامل مع الشطر الجنوبي على قدم المساواة مع الشطر الشمالي فيما عدا أن أغلبية مقاعد مجلس الرئاسة، الذي كان يضطلع بمهام رئيس الجمهورية، كانت للشمال (ثلاثة شماليون واثنان جنوبيان)، بالإضافة إلى أن رئاسة المجلس كانت من نصيب الرئيس علي عبد الله صالح. وبدا أن هذه محاولة مبكرة من قبل القيادة اليمنية لمواجهة المصاعب التي تعترض طريق التجارب الاندماجية عادة عندما تفشل في إعادة تكييف وضع النخب الحاكمة السابقة في أطراف الوحدة، ذلك أن أعضاء هذه النخب قد يتدنى وضعهم بعد الوحدة من الصف الأول إلى الصف الثاني، وقد يفقد بعضهم دوره أصلاً في دولة الوحدة الجديدة، ولذلك فإن الطريقة شبه المتساوية التي وزعت بها الأدوار في الجمهورية اليمنية كان من شأنها أن تواجه هذه الصعوبة؛ حيث أبقت على كافة العناصر القيادية تقريباً في النخبة الحاكمة السابقة في الشطر الجنوبي في مواقع مؤثرة في دولة الوحدة. غير أن هذه الآلية لإعادة تكييف وضع النخبة الحاكمة السابقة في الجنوب سرعان ما فقدت تأثيرها، فمن المعروف أن الوحدة اليمنية كانت مدخلاً للتعددية السياسية، على العكس من الوحدة المصرية-السورية، على سبيل المثال، التي اشترط الرئيس جمال عبد الناصر لقيامها إلغاء الأحزاب السياسية في سورية أسوة بمصر. وهكذا بدأت الوحدة اليمنية بحزبي المؤتمر الشعبي العام (التنظيم السياسي الوحيد في الشطر الشمالي قبل الوحدة) والاشتراكي (الحزب الواحد في الشطر الجنوبي قبل الوحدة)، وسُمح بتكوين الأحزاب بصفة عامة، فنشأت أحزاب عديدة كان أهمها وأكثرها فاعلية حزب الإصلاح ذو التوجهات الدينية الواضحة، ومع أول انتخابات برلمانية تعددية أُجريت في اليمن عام 1993 برز حزب الإصلاح ككتلة ثانية من حيث الأهمية النسبية في الساحة السياسية اليمنية، وأصبح واضحاً أنه من الممكن الاستغناء عن الحزب الاشتراكي في أية صيغة ائتلافية حاكمة. ومن هنا بدأ حديث الضمانات من قبل هذا الأخير، وبدأت الاتهامات المتبادلة بالتآمر بين الحزب الاشتراكي وحزب المؤتمر، وأخفقت كافة جهود الحل لتصل الأزمة بالبلاد إلى حد الصدام المسلح بين جيشي الشطرين في عام 1994 في ظل إعلان القيادة الجنوبية السابقة انفصالها عن دولة الوحدة. ومع أن القيادة المركزية اليمنية نجحت في إدارة الحرب- ومن الواضح أنها كانت تتحسب لذلك، وربما كانت تتمناه كي تحسم الأمور- إلا أن الحرب كانت لها تداعياتها السلبية الواضحة على الوحدة اليمنية. في البدء تمثلت هذه التداعيات فيما أصاب النخبة الحاكمة السابقة في الجنوب من تدهور في أوضاعها، وامتدت هذه التداعيات لاحقاً لتشمل صفوفاً ثانية وثالثة منها فقدت مواقعها بعد حرب الانفصال، وبصفة خاصة في القوات المسلحة. ولذلك، مثلت المطالبة بإنصاف هؤلاء ملمحاً دائماً في الأزمات المتكررة التي تعرضت لها الوحدة في شطرها الجنوبي، ثم امتدت الأزمة في مرحلة لاحقة لتشمل مطالب حياتية يومية تبنتها قطاعات من اليمنيين في الجنوب، ثم اكتست طابعاً سياسياً بتحول تلك المطالب إلى رأي في أسلوب إدارة الوحدة وتوزيع مكاسبها بالعدل بين شطريها، ثم وصلت إلى أقصى درجات الخطورة برفع شعارات انفصالية في غمار الأزمة، واستهداف بعض أعمال الشغب في الجنوب ممتلكات مواطنين شماليين. لم يقف الأمر عند حد الإخفاق في إعادة تكييف وضع النخبة الحاكمة سابقاً في الشطر الجنوبي، ولكن هناك معضلة أخرى تواجه التجارب الوحدوية عادة، وهي حدوث زيادة حادة في الأعباء على مواطني دولة الوحدة قبل تبلور ثمارها التي يفترض أن تنعكس إيجابياً على حياتهم اليومية. وفي حالتنا هذه أنجزت الوحدة اليمنية في مايو 1990، وبعد أقل من ثلاثة شهور تفجرت أزمة الاحتلال العراقي للكويت، وفُسر الموقف اليمني من الأزمة، وبصفة خاصة من قبل دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية على أنه مؤيد للرئيس العراقي السابق صدام حسين، وهكذا سرعان ما حُرمت دولة الوحدة من تحويلات العمالة اليمنية التي عادت من السعودية بأعداد تتراوح بين ثلاثة أرباع المليون و850 ألف مواطن، وحُرمت كذلك من المساعدات التي كانت تتلقاها من دول المجلس عامة ودولة الكويت خاصة. وهكذا تدهورت الأوضاع المعيشية في اليمن بشكل حاد، فإذا افترضنا صدق الاتهامات لسلطات دولة الوحدة بوجود عدم عدالة في توزيع الموارد بين الشطرين لكان معنى هذا أن الجنوب قد عانى أكثر من الشمال في هذا الصدد. وفي الآونة الأخيرة ألقت الأزمة الاقتصادية العالمية بظلالها الكثيفة على اليمن، كما على غيرها. ويكفي أن نشير على سبيل المثال إلى التراجع القياسي الذي حدث في عائدات اليمن النفطية بنسبة بلغت 74.5٪ في الربع الأول من العام الحالي. ثمة معضلة ثالثة تواجهها التجارب الوحدوية أيضاً أظهرت الأزمة الراهنة أن الوحدة اليمنية لم تفلت منها، وهي زيادة معدل الحراك البشري عبر الحدود السياسية القديمة عن معدل الانصهار بين مواطني دولة الوحدة على جانبي الحدود. صحيح أن الوحدة اليمنية تتميز بأنها مؤسسة على وجود شعب واحد بكل معنى الكلمة، إلا أن الملابسات السابقة فيما يبدو قد حافظت على المشاعر الجهوية، وهكذا نظر الشماليون إلى بعض مواطني الجنوب باعتبارهم متمردين على التقاليد اليمنية الأصيلة بسبب تأثرهم بالتجربة الماركسية، في حين نظر الجنوبيون إلى عملية إعادة ترسيم الحدود الإدارية التي ألحقت مناطق شمالية بمحافظات الجنوب، وكذلك إلى الهجرة الداخلية لبعض مواطني الشمال إلى الجنوب للاستثمار باعتبارها من مؤشرات السيطرة، وفيما بعد استخدم البعض لفظ الاحتلال في وصف هذه السيطرة. ونتيجة لكل ما سبق تطورت أزمة الوحدة اليمنية، وبصفة خاصة في السنة الحالية (2009)، وعلى نحو أخص في شهر جويلية الحالي. وبغض النظر عن أن الحكم على موقف الشعب اليمني في الجنوب من الوحدة يبدو مفتقداً لأية دراسات علمية (أو على الأقل استطلاعات دقيقة للرأي العام) فإن من الواضح أن هناك فئة باتت معارضة للوحدة تحت قيادة ما يسمى بالحراك الجنوبي السلمي، وهو حركة سياسية تنشط في جنوب اليمن ضد الوضع القائم فيه منذ حرب الانفصال في عام 1994. وثمة مؤشرات موضوعية تشير إلى أن هذه الأزمة تزداد خطورة يوماً بعد يوم. ومن أهم هذه المؤشرات التواصل الزمني لحركات الاحتجاج، فقد شهد هذا الشهر (جويلية 2009) على سبيل المثال حلقتين مهمتين من حلقات هذا الاحتجاج سواء في الذكرى الخامسة عشرة لانتهاء حرب الانفصال أو في مطلع الأسبوع الأخير من الشهر نفسه بتفجر الأحداث في مدينة زنجبار عاصمة محافظة أبين. وثاني المؤشرات يشير إلى اتجاه حركات الاحتجاج إلى العنف. وقد نذكر أن قيادة هذه الاحتجاجات يفترض أنها التنظيم المسمى الحراك الجنوبي "السلمي"، لكن الأمور اتجهت بالتدريج نحو العنف الذي قد يكون رد فعل لعنف السلطات، ولكن من الواضح أيضاً أن الحراك "السلمي" متحسب للعنف ومستعد له بل وربما بادر به، وتشير الأحداث الأخيرة في زنجبار إلى ما يشبه العمليات الانقلابية من قبل الحراك وأنصاره. وثالث المؤشرات أن الشعارات المعادية للوحدة والمطالبة بالانفصال وعودة دولة مستقلة في الجنوب باتت أكثر تواتراً عن ذي قبل، وأكثر قسوة في وصفها للسلطة المركزية بسلطة الاحتلال، وبدأ علي سالم البيض القائد الجنوبي السابق يتدخل صراحة بالتوجه لجماهير الجنوب ومطالبة السلطات اليمنية والمجتمع الدولي بالاعتراف بجمهورية مستقلة في الجنوب، وباعتباره- أي البيض- رئيساً لهذه الجمهورية. هكذا تزداد الأزمة خطورة، فيما مواجهتها ما زالت تتم بالأساليب التقليدية، وهي استخدام العنف، الذي قد يكون ضرورياً لردع القلة التي تحاول الخروج على الجماعة، لكنه يصبح غير مجدٍ إذا كانت هناك قضية حقيقية تكمن خلف حركات الاحتجاج، كما هو الحال في الوضع الراهن. ولذلك، فلابد من دراسة متعمقة وموضوعية لهذا الوضع، وتحديد المشروع في المطالب المرفوعة من حركات الاحتجاج، واتخاذ خطوات جادة في سبيل تنفيذها كي يمكن مواجهة المطالب غير المشروعة على نحو أيسر. قد لا يكون هناك خطر داهم على الوحدة اليمنية؛ لأن جماهير الجنوب لو كانت كلها أو غالبيتها معارضة للوحدة لفرضت إرادتها فرضاً، لكن ثمة مشكلات تعترض الوحدة وتقوض مناعتها، ومن حس الحظ أن هذه المشكلات قد تفاقمت في ظل بيئة خارجية صديقة للوحدة أو على الأقل متقبلة لها، فبعد أن كانت البيئة الإقليمية غير متقبلة بصفة عامة لإنجاز الوحدة لاعتبارات تتعلق بتوازن القوى في الجزيرة العربية، أصبحت هذه البيئة قلقة من احتمالات التفكك؛ لأنها باتت تهدد الجميع، وبصفة خاصة بعد احتلال العراق. أما البيئة العالمية، وبالذات الموقف الأمريكي، فلم يكن معادياً للوحدة اليمنية منذ بدايتها إلى نهايتها. ولذلك، فإن سلطة الوحدة تستطيع أن تعمل في ظل غياب ضغوط خارجية قوية، وإن كانت مشكلتها أنها تواجه في الداخل مشكلة حقيقية أخرى مع الحوثيين، ومن ثم فإن قدرتها على الحركة قد تكون مقيدة بهذا الاعتبار، وهو ما يشجع على التعامل مع الأزمة بأساليب سياسية وليست أمنية، ومن دون ذلك سوف يزداد عدم الاستقرار في اليمن بمعدلات سريعة، وقد لا تصبح المشكلة مشكلة شمال وجنوب بقدر ما تنفلت الأمور إلى رغبات جنوبية في مزيد من التشظي الذي عرفه النظام العالمي على نطاق واسع منذ تفكك الاتحاد السوفيتي، وسوف ينعكس هذا بالتأكيد سلباً على الشمال نفسه. إن الوحدة اليمنية ما زالت قادرة على مواجهة التحديات الراهنة، غير أن استمرار تجاهل هذه التحديات أو مواجهتها بنهج خاطئ يمكن أن تكون له عواقب وخيمة على الوحدة ذاتها.