قبل عقود، وعندما كنا اطفالا، تداولنا طرفة اثارت ضحكاتنا البريئة، مفادها ان رجلا يدعى سمير الحمار، ظل يعاني طويلا من كنيته هذه، ولمز وغمز اقرانه بسببها، فطفح به الكيل، وقرر ان يغير اسمه، وعندما نجح في مهمته هذه سأله رفاقه عن اسمه الجديد فقال بثقة انه سامر الحمار. لا اعرف لماذا تذكرت هذه الطرفة وانا اطالع أهم القضايا المطروحة على جدول اعمال القمة العربية الاستثنائية في مدينة سرت، وخاصة الاولى المتعلقة بتغيير اسم الجامعة العربية الى "اتحاد" الدول العربية، والثانية التي تقترح انشاء تكتل اقليمي جديد يضم جميع الدول العربية ودول الجوار اي كلا من تركيا وايران (بعض العرب اقترح انضمام اسرائيل ايضا). مشكلة الجامعة العربية، ومنذ تأسيسها قبل سبعين عاما تقريبا، لم تكن مطلقا محصورة في اسمها. وانما في انظمة الحكم العربية الاعضاء فيها، وطبيعة حكوماتها وزعاماتها، وفي النظام الداخلي للجامعة نفسها والعاملين فيها، والامناء العامين الذين تربعوا على عرشها، بحيث اصبحت هذه الجامعة عنوانا لعقم النظام الرسمي العربي، وصورة مصغرة عن امراضه المستعصية على العلاج. ولذلك فان حصر مسألة اصلاح هذه المؤسسة البيروقراطية المتعفنة الهرمة، في تغيير اسمها هو محاولة يائسة جديدة للاستخفاف بعقولنا، والتعاطي مع المواطن العربي وكأنه قطيع من الاغنام. اصلاح الجامعة مستحيل في غياب اصلاح شامل وجذري للنظام العربي، فالغالبية الساحقة من التكتلات الاقليمية العالمية الاخرى تطورت وفرضت نفسها، وافادت دولها ومصالح شعوبها، لانها تمثل دولا ديمقراطية، ولذلك ليس صدفة ان المنظمة الاقليمية الوحيدة التي لم تتطور فقط بل تراجعت هي الجامعة العربية، لانها تمثل حكومات هي الاكثر فسادا وتخلفا وقمعا وديكتاتورية في العالم بأسره، ولان امينها العام يأتي من رحم هذه الحكومات ومن اجل احد هدفين ليس لهما علاقة بالعمل العربي المشترك او قضايا الامة، الاول توفير تقاعد مريح له ماديا ومعنويا حيث الرواتب وبدلات السفر الضخمة. اما الثاني فإبعاده عن دائرة المنافسة على الزعامة، وتسهيل عملية التوريث، مثلما هو حال الامين العام الحالي السيد عمرو موسى. اعمل في الصحافة منذ ثلاثة عقود، وفي مطبوعات عربية متعددة قبل "القدس العربي"، واجزم بأنني لم اتلق دراسة عربية واحدة ذات قيمة اعدتها الجامعة، او اقسامها، بل لا ابالغ اذا قلت انه لم يصلني بيان واحد من اقسامها المتعددة، او حتى مكاتبها في الخارج ذات الميزانيات الضخمة بما في ذلك مكتبها في لندن الذي لا اعرف اسم مديره. بينما تصلنا آلاف الرسائل الاليكترونية من مختلف المؤسسات العالمية والعربية الاخرى. فماذا يفعل هذا الجيش العرمرم من الموظفين اذن؟ وما يثير الغيظ، غيظنا نحن على الاقل، كثرة الاستدلال هذه الايام، في غمرة الحديث عن الاصلاح، بالاتحاد الاوروبي، ومقارنة الجامعة به، وامكانية تحويلها الى منظمة اقليمية على نمطه او افضل منه، بحكم اللغة واواصر القربى والثقافة والتاريخ المشترك للدول الاعضاء. الاتحاد الاوروبي يمثل دولا نسبة الامية فيها دون الصفر وابرز الاسس التي قام عليها هي الديمقراطية وحقوق الانسان وحرية التعبير والقضاء العادل المستقل، والشفافية والمحاسبة المطلقتان، والمساواة في الوظائف وفرص العمل، والتوزيع العادل للثروة، والتكافل الاجتماعي، والرقابة البرلمانية الشرسة، والتعددية السياسية، والاعلام الحر الجريء، وهذه القيم، مجتمعة او منفردة، غير موجودة في معظم، او كل، قواميس الدول العربية الاعضاء في الجامعة. * * * الجامعة العربية لا يمكن ان تلحق بالاتحاد الاوروبي او تقترب من ظله عبر قطار تغيير الاسم، والذين يعتقدون ذلك، ويبشرون به، يتصرفون وكأنهم جاءوا من كوكب آخر، او انهم لم يقرأوا تجربة الاتحاد الاوروبي، ويتعرفوا على الاسباب التي ادت الى قيامه، والقيم التي تحكمه، واذا كانوا قد قرأوا فانهم لم يفهموا، وان فهموا فانهم في ظل تقديمهم مصالحهم الوظيفية على مصالح الامة، قرروا الصمت ومجاراة عمليات التضليل التي تسود حياتنا السياسية والمجتمعية. احد المبادئ المهمة التي قام عليها الاتحاد الاوروبي هو التكافل بين الشعوب، ومساندة الغني للفقير، اذا ابدى استعداده للالتزام بشروط العضوية المذكورة آنفا، فالدول المؤسسة، وقبل تغيير الاسم اي (السوق الاوروبية المشتركة) مثل المانيا وبريطانيا وفرنسا قدمت مئات المليارات من الدولارات في صيغة مساعدات وقروض واستثمارات للنهوض بالدول الاوروبية الفقيرة المرشحة للعضوية مثل اسبانيا والبرتغال واليونان، وتعزيز اقتصاداتها، وتحسين الظروف المعيشية لمواطنيها. فهل الدول العربية الغنية مستعدة ان تفعل الشيء نفسه، او تخصص سبعة في المئة من انتاجها القومي كمساعدات للدول الفقيرة مثلما تفعل دول مثل السويد والنرويج؟ الملياردير الامريكي بيل غيتس صاحب شركة مايكروسوفت العملاقة الذي يقضي معظم وقته وزوجته في متابعة المشاريع الخيرية في افريقيا وآسيا، خصص 35 مليار دولار من ثروته الشخصية لمساعدة الفقراء في العالم. وفوجئت بان تبرع هذا الرجل وحده يزيد بخمسة مليارات دولار عما قدمته المملكة العربية السعودية (مشكورة) من مساعدات خارجية على مدى عشرين عاما وفق ما جاء في بيان رسمي صدر قبل اسبوعين ونشر في الصحف السعودية. وربما يفيد في هذه العجالة ان نذكّر بعشرات المليارديرات الذين قرروا التبرع بنصف ثرواتهم لاعمال الخير، بمبادرة من غيتس وزميله بافيت، ولم يكن من بينهم ملياردير عربي واحد، رغم ان معظم هؤلاء كوَّنوا هذه الثروات من سرقة المال العام، والمشاركة في صفقات مريبة وغير قانونية، نقولها والمرارة في حلوقنا. الحقيقة المؤلمة، والفاضحة، التي يعرفها الجميع ويتجاهلونها، تتلخص في ان وزن وقيمة الحكومات العربية التي تنضوي تحت مظلة الجامعة تقترب من الصفر في معادلات القوى العالمية، وانفاق مئات المليارات من الدولارات على شراء صفقات اسلحة لا يغير من هذه الحقيقة، لان السلاح المشترى ليس للاستخدام، وإن استخدم فليس في المكان الصحيح، وغالبا في خدمة حروب تخدم المصالح الامريكية وليس العربية. واتحدى ان يثبت اي شخص ان طائرة واحدة من صنع امريكي استخدمت في الحروب ضد اسرائيل. السؤال الذي يطرح نفسه هو كيف يطرح السيد عمرو موسى تشكيل تكتل يضم الدول العربية الى جانب تركيا وايران في ظل حال الهوان الرسمي العربي الراهن، في وقت تنفق فيه دول الخليج العربية مبلغ 123 مليار دولار على شراء طائرات ومعدات عسكرية امريكية متطورة استعدادا للمشاركة في اي حرب تشنها امريكا لتدمير المنشآت النووية والبنى التحتية الايرانية؟ هناك مثل يقول "مجنون يحكي وعاقل يسمع" فهل من الممكن تشكيل هذا التحالف مع ايران في وقت تقرع فيه انظمة عربية واعلامية طبول الحرب ضد ايران، وتشارك بحماس منقطع النظير في تطبيق العقوبات الدولية المفروضة عليها بتحريض امريكي؟ ثم لماذا تنضم تركيا الديمقراطية التي تحتل المرتبة السادسة عشرة على قائمة اقوى الاقتصادات في العالم، وتجري مناورات مشتركة مع الصين وايران الى مثل هذا التكتل المسيطَر عليه امريكياً؟ * * * هذه المقترحات "البهلوانية" حول اصلاح الجامعة واقامة تكتل دول الجوار العربي، تذكرنا باقتراحات مماثلة مثل البرلمان العربي، ومفوضيات الاعلام والسياسة والتعليم، التي لم تنجح الا في زيادة عدد الكادر الوظيفي في الجامعة، وتوظيف بعض الوزراء السابقين او ابنائهم. هذه المقترحات الموضوعة على جدول اعمال قمة سرت هي قنابل دخان الهدف منها اخفاء عورات النظام الرسمي العربي، واستمرار عمليات التضليل، والايحاء بان مؤسسة القمة العربية ما زالت حية ترزق وتتخذ القرارات. في ظل هذا التدهور المهين لمكانة النظام الرسمي العربي، لا نستغرب رفض وزراء خارجية دول افريقية اضافة فقرة في البيان الختامي للقمة العربية- الافريقية، التي ستعقد بعد القمة العربية، تدين الاستيطان الاسرائيلي صراحة، وقبولهم لاحقا، وبعد استجداءات، بصيغة وسط عمومية. فالدول الافريقية تدرك هزالة الوضع العربي وضعفه، وكيف خذلت الدول العربية ليبيا اثناء حصارها، وتخذل الفلسطينيين المحاصَرين في قطاع غزة. وهي لا تريد التضحية بعلاقاتها مع اسرائيل في وقت يطبّع معظم العرب علاقاتهم معها في السر او العلن. عندما كانت الحكومات العربية، او معظمها، تتصرف بمسؤولية، وتعمل بجدية من اجل خدمة قضاياها، والالتقاء مع الآخرين على قاعدة المصالح المشتركة في مواجهة الظلم والاستكبار الغربي، وتتخذ مواقف شجاعة ورجولية، كان العالم يحترمها، ويقف الى جانبها في المحافل الدولية، ولكن عندما توظف امكانياتها واراضيها في خدمة حروب امريكا وتوفر الوظائف للعاطلين الامريكيين من خلال صفقات اسلحة، ونسبة البطالة في اوساط الشباب العربي تزيد عن الثمانين في المئة، فان فشل الطروحات العربية في الاممالمتحدة او هيئة الطاقة الذرية، او المجلس العالمي لحقوق الانسان من الامور الطبيعية. * القدس العربي * عبد الباري عطوان *