تعيش الطبقة السياسية حالة من الغليان الداخلي الذي يكاد يفقد صواب الكثير من الزعامات الحزبية التي وجدت نفسها بين فكي الكماشة، ضغط من القواعد بسبب هزيمة التشريعيات، وانشقاقات في القمة، هذا فيما بدت السلطة وكأنها صمت أذانها أمام كل النداءات المتعلقة بتشكيل الحكومة، في وقت تواجه فيه البلاد ضغطا خارجيا غير مباشر وهو ما عكسه التقرير الأمريكي الأخير حول الحريات الدينية. لا تزال الأجواء الرمضانية تسيطر على كل شيء في الجزائر، فالتعاطي مع السياسة هو شحيح جدا وبمقدار الحركية التي تعرفها الساحة السياسية وهي حركية محتشمة جدا ميزها تخبط بعض التشكيلات السياسية على وقع أزماتها الداخلية، وعدا ذلك فإن أجواء شهر الصيام بطقوسه المعروفة هي المسيطرة على يوميات الجزائريين، حرارة تحرق الرؤوس وأسعار تلهب الجيوب، أوجدت وضعا ضاعت معه كل تطمينات الحكومة. هذه الأجواء الخاصة لم تمنع من بروز تحركات سياسية هنا وهناك، ميزتها »خرجات« لقيادات حزبية إسلامية على غرار عبد الله جاب الله، رئيس حزب العدالة والتنمية الذي اعتبر تأخر الإعلان عن الحكومة الجديدة »مؤشر خطير«، فيما ذهب أمين عام حركة النهضة فاتح ربيعي إلى الحديث عن استعداد حركته للمشاركة في أي حكومة توافق وطني قد يتم تشكيلها لتسيير مرحلة انتقالية، وهو الموقف ذاته الذي يتبناه جاب الله وبعض الأحزاب الإسلامية التي خرجت فارغة اليدين من العملية الانتخابية وأصيبت بصدمة غير مسبوقة بعدما اعتقدت بأن موعد تسلمها السلطة قد حل وأن تكرار ما حصل في بعض بلدان ما يسمى ب »الربيع العربي« هو تحصيل حاصل. ولا شك أن وهم »الانتصار الكاسح« في التشريعيات هو الذي قاد حركة مجتمع السلم إلى أزمة أخرى خطيرة، فنتائج الحركة الجد هزيلة في الانتخابات الأخيرة، وخياراتها السياسية الخاصة بالخروج من التحالف الرئاسي والعودة إلى المعارضة هي التي قسمت ظهر الحركة وأدت بالنائب ووزير الأشغال العمومية السابق عمار غول وبعض العناصر القيادية في الحركة إلى اختيار الانشقاق على العودة إلى المعارضة، ولن تفيد كل الاتهامات التي وجهها خليفة الراحل محفوظ نحناح، أبو جرة سلطاني لغول وأتباعه بأنهم كانوا يؤدون مهمة لصالح أجهزة السلطة داخل الحركة، لكي تعيد اللحمة إلى حزب بدا وكأنه ينهار ويسقط سقوطا حرا ويفقد كل مقومات القوة التي ورثها عن مؤسس الحركة الشيخ نحناح. لقد اختار غول تشكيل حزب سياسي جديد، ويرتقب أن يعلن عن ذلك رسميا في الفاتح من سبتمبر على أن يقدم طلب اعتماد المشروع للداخلية في منتصف أوت الجاري، ولا مجال للعودة إلى الخلف، وحتى مساعي الصلح لم تعد مفيدة وقد أعلن نائب رئيس الحركة عبد الرزاق مقري بنفسه فشل المصالحة بين قيادة الحركة والمنشقين، وما بقي على قيادة حمس إلا أن تواجه وضعا خطيرا، فانشقاق غول قد يكون أخطر على حمس من انشقاق وزير الصناعة السابق عبد المجيد مناصرة رفقة عدد من المؤسسين، ويرتقب أن تتسبب في نزيف حاد يأتي على ما تبقى من موروث الشيخ محفوظ نحناح. وليست حمس هي وحدها من يعيش هذا الوضع الصعب، فلا تزال الأزمة في الأفافاس تلقي بكل ثقلها على الحزب، والهجمة التي قابل بها السكرتير الأول علي العسكري المناوئين خلال تجمع بتيزي وزو لن تفيد في شيء ولن تعيد للأفافاس وحدته وقوته، وقد يتسبب مشروع الحزب الجديد للسكرتير الأول السابق والنائب الحالي كريم طابو في تشتيت صفوف حزب حسين أيت أحمد. وشكل اعتصام الحرس البلدي ببوفاريك أهم القضايا التي جلبت الانتباه خلال الأسبوع المنصرم بالنظر إلى مراحل الشد والجذب التي حصلت بين ممثلي هذا السلك وبين وزارة الداخلية التي يبدو أنها قد اختارت مؤخرا تلبية كل شروط الحرس البلدي بعدما أحست بأن تحركاته قد تشعل فتيل موجات من الاحتجاجات الاجتماعية التي قد يصعب التحكم فيها، خاصة وأن العديد من القيادات الحزبية المعارضة تتوقع أن يشكل الدخول الاجتماعي المقبل فرصة لتحريك الشارع والضغط على السلطة التي بدت وكأنها قد استسلمت إلى الراحة بعد أشهر من المواجهات مع مختلف القطاعات الغاضبة، وهذا على خلفية محاولات معروفة لنقل ما يسمى ب »الربيع العربي« إلى شوارع العاصمة الجزائرية. وإذا كانت محاولات جر الجزائر إلى مستنقع هذا »الربيع« الذي أنفقت من اجله قطر ما لا يقل عن 2 مليار دولار في ليبيا وحدها ليس حبا في الليبيين طبعا وإنما رغبة في التمكين لمشروع الشرق الأوسط الجديد الذي ترعاه الدوحة إعلاميا وماليا، فإن رؤية عشرات العائلات السورية وهي تجوب العاصمة يعطي صورة مصغرة عن النتائج الكارثية لهذا »الربيع« الغريب الذي أصاب السوريين أيضا، وحول بلدهم إلى كومة من نار، وتسبب في نزوح الآلاف من السوريين إلى عدة بلدان عربية وأجنبية، وتشير الأرقام إلى دخول ما لا يقل عن 12 ألف سوري الجزائر، أغلبهم يوجدون في وضعية إنسانية صعبة مما دفع بالسلطات الجزائرية إلى التكفل بهم رسميا وإقامة مخيم لإيوائهم بسدي فرج غرب العاصمة، وهو أقل شيء كان يمكن القيام به لرد الجميل إلى شعب شهم آزر الجزائريين واواهم خلال مرحلة الاستدمار الفرنسي بالجزائر. ويبدو التقرير الأخير الذي أصدرته الخارجية الأمريكية والخاص بالحريات الدينية في الجزائر غير متوازن، وله أهداف سياسية على حد تعبير رئيس اللجنة الوطنية الاستشارية لترقية وحماية حقوق الإنسان مصطفى فاروق قسنطيني، وحتى وإن تفادى التقرير اتهام الجزائر بالتضييف على الحريات الدينية بشكل صريح كما كان يفعل خلال السنوات الفارطة، إلا أنه رسم صورة تبدو غير حقيقية عن وضعية غير المسلمين في الجزائر وعن عددهم الحقيقي، وقد انتقد التقرير عدم السماح لغير المسلمين بالترشح لرئاسة الجمهورية، وبأن المنتسبين للديانات الأخرى لا يمكنهم التدرج في المناصب العليا، فضلا عن التضييق على عمليات التبشير، وفرض رقابة كبيرة على استيراد كتب غير إسلامية، وزعم التقرير وجود ما لا يقل عن 70 ألف مسيحي ويهودي في الجزائر، وهذا الرقم غير صحيح بالمرة استنادا إلى أكثر من مصدر. لكن ما الذي يخفيه هذا التقرير ولما تبالغ واشنطن في كل مرة برسم صورة غير حقيقية عن الحريات الدينية في الجزائر؟ والجواب هو أن هذا التقرير هو أحد أدوات الضغط والابتزاز التي تمارسها أمريكا ضد عدة دول ومن بينها الجزائر للحصول على تنازلات معينة في قضايا سياسية واقتصادية وحتى أمنية. لقد حرصت واشنطن وعلى لسان وزيرها للدفاع على دعوة دول المغرب العربي لتنسيق جهودها لمواجهة تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي، وأمريكا تدرك جيدا بأن التعاون بين دول المغرب العربي تعتريه عقبات كثيرة، فانشغال التونسيون بمشاكلهم الداخلية تجعل مسالة مكافحة الإرهاب كمالية لا تعنيهم كثيرا في هذه المرحلة، ويمنع الوضع القائم في ليبيا أي تنسيق جدي مع طرابلس في ظل غياب شبه كلي للدولة في هذا للبد الذي تسيطر عليه مليشيات مسلحة تكدس أطنان من الأسلحة الخفيفة والثقيلة وحتى الصواريخ وسط الأحياء المزدحمة بالسكان، هذا فيما تبدو العلاقات بين الجزائر والمغرب وكأنها تتأرجح بين نوايا حسنة وأخرى سيئة يبديها الطرف المغربي في كل مرة تتحرك فيها دبلوماسية البلدين للرفع من مستوى العلاقات الثنائية، حتى وإن حرص قادة البلدين، الرئيس عبد العزيز بوتفليقة والعاهل المغربي محمد السادس على تبادل رسائل ايجابية بمناسبة احتفال المغرب بعيد العرش. أمريكا تدرك أكثر من غيرها طبيعة الدور الذي تضطلع به الجزائر في مجال مكافحة الإرهاب والتصدي للقاعدة، وقد عكس التقرير الأخير حول الإرهاب لسنة 2011 هذه الرؤية وإن بالغ بعض الشيء في تقدير الخطر الإرهابي الذي قال بأنه لا يزال كبيرا خصوصا بشرق البلاد والصحراء فضلا عن الحدود الجنوبية للجزائر، وتحدث التقرير عن تحييد ما لا يقل عن 800 إرهابي في سنة 2011، وعن المجهود الذي تقوم به الجزائر لمواجهة التطرف الديني، فضلا عما أسماه بغياب تشريع خاص بتجميد الأموال الموجهة لدعم الإرهاب، والذي لم يقدر التقرير الأمريكي إخفاؤها هي النتائج الباهرة التي حققتها الجزائر في حربها على الإرهاب، والعمل الكبير الذي تقوم به للتصدي للقاعدة بشمال مالي ومنطقة الساحل الصحراوي عامة، في وقت تحاول فيه دول غربية معروفة وخصوصا الولاياتالمتحدةالأمريكية وفرنسا الدفع في اتجاه عسكرة المنطقة وتغويل القاعدة لنقل المواجهة معها من أفغانستان إلى الساحل الإفريقي.