قلل الخبير الدولي مبارك مالك سراي في هذا الحوار الذي خص به "صوت الأحرار" من أهمية الضجة التي تثيرها بعض الأطراف حول الإجراءات التي اتخذتها الحكومة في مجال الاستثمار، وقال إن المستثمرين اختاروا في هذه المرحلة اللجوء إلى الإشاعة لكسر إرادة الدولة وحملها على التراجع عن قرارات وصفها بالسيادية والضرورية، مرجحا أن يقبل هؤلاء في النهاية بالأمر الواقع بالنظر لما توفره الجزائر من فرص للمستثمرين، وفي حديثه عن انسحاب الشركة الإماراتية "إعمار"، فقد استغرب الخبير ربط الانسحاب بهذه الإجراءات باعتبار أن الشركة انسحبت قبلها من السعودية ومن مصر. * أثارت الإجراءات التي اتخذها الوزير الأول في مجال الاستثمارات حفيظة عدد من المتعاملين الاقتصاديين الأجانب، ومنهم من ذهب إلى دعوة الحكومة لمراجعتها، هل تعتقدون بجدوى هذه الإجراءات، أم سيكون لها تأثير سلبي على مستقبل الاستثمارات الأجنبية في الجزائر؟ الإجراءات التي بادرت بها الحكومة مؤخرا تهدف إلى تعديل التشريعات والقوانين الخاصة بالاستثمار في الجزائر لتنظيم القطاع، وهي قرارات سيادية لا يحق لأحد أن يطلب بالتراجع عنها، وهي إجراءات تنظيمية موجودة في أغلب دول العالم وليست بدعة جزائرية مثلما يريد أن يصورها البعض، لكنها بحاجة إلى بعض التوضيح لتسهيل عملية تطبيقها من خلال مراسيم تنظيمية إلى جانب ضرورة تصنيف الاستثمارات بين تلك التي تترك للقطاع الخاص واستثمارات كبرى لا بد أن تتدخل فيها الدولة بشكل أو بآخر، وأشير هنا إلى أن الجزائر لجأت إلى هذه الإجراءات بعد مرور أكثر من عشرية على تطبيق سياسة الانفتاح والتي لم تعد بفائدة كبيرة على البلاد بسبب الأنانية المفرطة للمستثمرين الأجانب الذين استفادوا من فرص الاستثمار التي توفرها الجزائر وجعلوا منها سوقا مفتوحة للسلع المستورد. *هل تعتقدون أن الجزائر تأخرت في فرض هذه الإجراءات لتنظيم قطاع الاستثمار في الجزائر؟ الجزائر تأخرت في بسط يدها على قطاع الاستثمارات لسببين اثنين، الأول لأنها كانت تعاني عزلة على الصعيد الدولي خلال سنوات الأزمة الأمنية وكان من الضروري فتح المجال دون رقابة وقيود لكسر الحصار، أما السبب الثاني فكان مراقبة ردود فعل الآخر، أي المستثمرين الأجانب، وللأسف فإنهم تعاملوا مع الجزائر بكل أنانية، واليوم وهي تستعيد صحتها المالية وتعيد البنى التحتية، لا بد من الالتفات إلى توفير الخدمات للمواطن وفرض رقابتها على مجال الاستثمار في هذا القطاع. * لو تحدثنا عن الإجراء الذي يفرض على المستوردين الأجانب فتح رأسمال مشاريعهم في الجزائر بنسبة 30 بالمائة لشركاء جزائريين، منهم من يقول إن المتعاملين الوطنيين ليست لهم الإمكانيات المالية للدخول في هكذا شراكة، ما مدى صحة هذا الطرح؟ هذا ما قصدته بضرورة تصنيف مستويات الاستثمار، فالاستثمارات الكبرى التي تتعلق بقطاعات إستراتيجية وحيوية على غرار البترو كيمياء والكهرباء والمياه والصناعات الثقيلة، لا بد أن تتدخل فيها الدولة ولا يمكن أن تترك هكذا لأجانب، أما المستوى الثاني من الاستثمارات فيمكن أن يترك للقطاع الخاص، بشرط أن تكون هناك إجراءات أخرى لتحفيز القطاع وتقويته، لأن القطاع الخاص في بلادنا ما يزال ضعيفا ويفتقد لإمكانيات مالية تسمح له بالدخول في شراكة مع المتعاملين الأجانب، خاصة وأن لأرقام تقول إن 40 بالمائة من الإمكانيات المالية للجزائر توجد خارج البنوك، وعليه من الضروري تسهيل المهمة للمتعاملين الوطنيين على مستوى البنوك العمومية ومنحهم قروض تسمح لهم بالدخول في شراكة مع المستثمرين الأجانب لأن بنوك القطاع الخاص ما تزال بعيدة عن تمويل الاستثمار وتكتفي بالتجارة الخارجية وتمويل القروض الاستهلاكية، والضجة التي تثار هنا وهناك بشأن هذا الإجراء الذي فرضته الحكومة على المستوردين، تقف وراءه لوبيات وجماعات مصالح تضم جزائريين وأجانب لا تريد أن تشبع رغم ما حصلت عليه طيلة السنوات الماضية من السوق الجزائرية. * وبخصوص الإجراء الذي يفرض على المتعاملين الاقتصاديين الأجانب تحويل نسبة من الأرباح إلى استثمارات في الجزائر، هل يمكن أن يعطي دفعا لعجلة الاستثمارات، أم أن الإجراء سيجعلهم يعيدون التفكير بشأن الاستثمار في الجزائر؟ بطبيعة الحال سيعطي دفعا للاستثمارات، ومن حق الجزائر أن تبادر به لأنه إجراء هو الآخر معمول به في أغلب دول العالم سواء بقانون أو بدون قانون، والجزائر تساهلت كثير في هذا الموضوع في السابق وحان الوقت لأن تفرض رقابتها على القطاع بكل صرامة، ولا أجد أحسن مثال من قطاع استيراد السيارات، فالأرقام تشير إلى أن فاتورة الاستيراد وصلت إلى 3 مليار دينار سنويا تعود على وكلاء السيارات، لاستثمارها في دول أخرى لبناء مصانع لتركيب السيارات على غرار تركيا أو إسرائيل أو المغرب، وهو ما نعتبره أمرا غير مقبول بأي شكل من الأشكال. *هل سيتفهم المستثمرون الأجانب هذه الدوافع التي جعلت الجزائر تلجأ إلى هذه التشريعات والإجراءات، أم أنهم سيواصلون على موقفهم؟ من وجهة نظري فإن المستثمرين وبعد مبادرة الجزائر بهذه الإجراءات ما يزالون في حالة تردد، ويلجئون إلى الإشاعة سواء بالترويج لفكرة التراجع عن الاستثمار أو الانسحاب بهدف كسر إرادة الدولة وجعلها تتراجع عن هذه الإجراءات، لكنهم في النهاية سيرضخون للأمر الواقع وسيعاملون معه، لأن الجزائر توفر لهم فرص استثمار هامة في ظل انخفاض أسعار الماء والكهرباء إلى جانب التحفيزات الأخرى. والمطلوب من الجانب الجزائري رغم كون هذه القرارات سيادية، هو القيام بحملة لشرح هذه الإجراءات في الداخل وفي الخارج ولا أعتقد أن مبادرة من هذا النوع ستمس بسيادة البلاد. * هناك من وجد في قرار انسحاب الشركة الإماراتية "إعمار" من الجزائر، فرصة لانتقاد هذه الإجراءات، هل هناك علاقة بين الانسحاب وبين الإجراءات التي بادرت بها الحكومة؟ انسحاب إعمار من السوق الوطنية يعود بنسبة 90 بالمائة لأسباب دولية، و10 بالمئة فقط لأسباب ذات العلاقة بالجزائر والتي تتمثل في البيروقراطية على مستوى الإدارة الجزائرية ووجود تيار فرنكوفوني يقف ضد الاستثمارات العربية، أما الأسباب الحقيقية لانسحابها فهي دولية فالشركة خسرت ما يقارب 10 بالمائة جراء الأزمة المالية، ولم يعد بمقدورها تبني مشاريع كبرى، فقد سبق وأن أعلنت أنها ستستثمر 25.5 مليار دولار قبل أن تتراجع وتعبر عن رغبتها في أن تساهم البنوك الوطنية في تمويل مشاريعها، ومعلوم أن "إعمار" انسحبت من مصر ومن السعودية قبل انسحابها من الجزائر. *في كل مرة يجري الحديث فيها عن الاستثمار في الجزائر، يعود إلى الواجهة الطرح القائل إن مناخ الاستثمار غير ملائم في الجزائر، من وجهة نظركم هل مناخ الاستثمار في الجزائر بهذا السوء مقارنة بدول أخرى؟ رغم كل الجهود المبذولة مناخ الاستثمار في الجزائر ما يزال سيئا، فهناك تناقض بين القمة والقاعدة، رئيس الجمهورية مثلا يولي اهتماما بالغا بالموضوع ويذهب إلى حد استقبال المستثمرين والاستماع إلى انشغالاتهم وأفكارهم وهناك مستشار خاص برئاسة الجمهورية يتولى الملف، ونفس الشيء على مستوى الحكومة، لكن على مستوى القاعدة الأمر مختلف تماما، والوضع يكاد يكون كارثيا بسبب العراقيل البيروقراطية، على مستوى الإدارة، وأشير هنا إلى أن مناخ الاستثمار ليس قوانين وإجراءات فقط وإنما تتحكم فيه التعاملات البنكية والسياسة الجبائية والعقار، إلى جانب المطعم المناسب والمسكن والمدرسة إلى جانب الخدمات الترفيهية أي أن المناخ المعيشي أيضا له دور.