فاز حزب جبهة التحرير الوطني بأغلب بلديات الوطن، في انتخابات التاسع والعشرين نوفمبر، وكالعادة تعالت أصوات من هنا وهناك تشكك في نزاهة العملية الانتخابية برمتها ونتائج الاقتراع على وجه الخصوص، لكن الموضوعية والعقلانية تقتضيان طرح تساؤلات عميقة قد تمكن من فهم ما جرى. بعيدا عن التسييس المفرط لأي عنصر من العناصر التي تخفي وراءها الأحزاب المصدومة في اقتراع أول أمس، هزيمتها في ثاني اقتراع في عهد الإصلاحات السياسية، تذهب المعطيات الميدانية المتوفرة منذ بداية التحضير للعملية الانتخابية في اتجاه تأكيد فوز الآفلان بأغلب البلديات والمجالس الولائية، ذلك لأنه ورغم الهزات التي عرفها إلا أنه يبقى الحزب الأكثر تنظيما والأقوى هيكلة على مستوى الوطن، ببلدياته وقراه، ومدنه وأحيائه، فالوعاء الانتخابي لحزب جبهة التحرير يكاد يكون ثابتا منذ دخول البلد في عهد التعددية قبل عشرين سنة، ولعل الانتخابات التشريعية الأخيرة التي جرت في أجواء طبعتها رهانات سياسية وألقت عليها بظلالها التحولات الإقليمية والمتغيرات الدولية، أثبتت أن الوعاء الانتخابي للحزب يبقى إلى حد كبير وفيا له ويعمل من أجل إنجاحه رغم الغضب الذي يتملك الكثير من المناضلين هنا وهناك. ومن هنا فالنتائج المحصل عليها في محليات 29 نوفمبر ما هي إلا تحصيل حاصل وتأكيد لما هو مؤكد. وبالإضافة إلى وعاء الحزب الثابت، فإن الآفلان على خلاف الكثير من الأحزاب يملك من الإمكانيات التنظيمية والقدرات البشرية ما أهله لإدارة حملة انتخابية قوية نشطها الأمين العام بكل جدية، ناهيك عن خبرته في التعامل مع الاستحقاقات والمواعيد الكبرى. أما على الصعيد السياسي، فخطاب جبهة التحرير الوطني ما يزال يلقى قبولا عند فئات كبيرة من المجتمع، ورمزيته التاريخية تكاد تكون ملجأ للطامحين إلى الاستقرار والأملين في التنمية. وبإلقاء نظرة بسيطة على منافسي الآفلان وأولئك الذين يلقون بالتهم الجاهزة، دون السعي لمعرفة أسباب إخفاقهم، فالأرقام المتوفرة تؤكد أن أزيد من 30 حزب من أصل 52 حزبا مشاركا لم يتمكن من تجهيز قوائم إلا في أقل من 100 بلدية، وعدد كبير من أحزاب أخرى مشاركة لم تدخل المنافسة إلا بقائمتين أو ما ينيف قليلا في عدد معتبر من البلديات، وهي مشاركة رمزية لا يمكن أن ترقى إلى مستوى الحديث عن مشاركة في الانتخابات، وحتى أحزاب التيار الإسلامي التي ظلت تهدد بوعائها الانتخابي، لم تتمكن إلا من المشاركة في أقل من نصف بلديات الوطن، فالتكتل الأخضر الذي يضم كلا من حمس والنهضة والإصلاح، لم تتجاوز عدد البلديات التي شارك فيها ال700 بلدية من أصل 1541، وحركة حمس التي كانت تصنف إلى وقت قريب بأكثر الأحزاب تنظيما وهيكلة وانضباطا لم تتمكن لوحدها من الدخول إلا في اقل من 400 بلدية، ناهيك عن المعدل الإقصائي الذي يعتمده النظام الانتخابي ومعدله 7بالمائة. ومعنى هذا الكلام أن أزيد من نصف بلديات الوطن اقتصرت المنافسة الجادة فيها على حزبي جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي، ومن الطبيعي أن من يشارك بأقل عدد في البلديات، لا يطمح للحصول على الأغلبية، وهذا منطقي وموضوعي وبديهي أيضا. ومن هنا يستوجب القول أن القسط الأكبر من نتائج الآفلان مرده إلى ضعف الأحزاب، وليس لأي عامل آخر وحتى وإن وجد فإنه يبقى عرضيا استثنائيا لا يرقى لأن يكون موضوع تشكيك أو طعن، وهنا يرى مراقبون أن الأحزاب السياسية مطالبة بإعادة النظر في وضعها النظامي ونوعية خطابها السياسي، والقيام بمراجعات قد تجعلها تدرك مكامن الخلل التي تعاني منها. أما بالنسبة للأفلان فقد استكمل سيطرته على المجالس المنتخبة، ووضع خطوة جديدة في مسار الاستحقاقات القادمة وهي ذات أهمية كبرى للمسار الديمقراطي من جهة والبناء المؤسساتي من جهة أخرى.