عند خبر وصول الضيف الفرنسي الرئيس فرانسوا هولاند إلى مقرّ إقامته في تلمسان قالت مذيعة نشرة أخبار الثامنة، في قناتنا الوطنية، إن الاستقبال تمّ وفق تقاليد تلمسان العريقة، أو كلاما مثل هذا.. وانتظرتُ أن يظهر في السياق شيء على شاكلة التمر والحليب الذي اُستقبل به هولاند في العاصمة، لكنّ الأصوات والصور مضت في مضمار آخر تماما. عند مدخل المكان اصطفّ عدد معتبر من فتيات تلمسان بلباسهن التقليدي الأصيل، وكان الاستقبال الحافل للرئيس الفرنسي، وانطلقت الحناجر بالترحيب وكان التناغم واضحا بين مختلف الأصوات، فقد خضع الجميع لتدريب لا بأس به.. وظهر السخاء (التلمساني) والضيافة العريقة عندما بدأ النشيد بالفرنسية ومطلعه (صباح الخير سيدي الرئيس).. ويستمر التكريم والاحتفاء بالضيف من خلال جامعة بوبكر بلقايد بتلمسان، عاصمة الزيانيين، حيث يتحدث الرجل أمام جمع كبير هناك وتدوّي القاعة بالتصفيق، ويستلم الضيف شهادة الدكتوراه الفخرية. كرم الاستقبال الجزائري ظهر جليّا في العاصمة قبل تلمسان عندما اصطفّت الجموع على جانبي الطريق الذي مرّ عبره الرئيس هولاند، وصافحت الأيادي الضيف ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، وحيّته النساء من الشرفات بالزغاريد وكان عيدا حقيقيا لأهل العاصمة، أو هذا ما بدا لنا من تقارير التلفزيون على الأقل. ويوقّع الضيف على إعلان صداقة وتعاون، ويشهد توقيع عدد معتبر من الاتفاقيات الثنائية بين الجزائروفرنسا، وفي مجالات اقتصادية حيوية، ويغادر سالما غانما باسم الثغر كما وصل على تلك الحالة من النشوة والسرور، أو هذا ما بدا لنا من ظاهر الصور على الأقل. وبعد كل ما سبق.. أتمنى فقط أن أقابل الرئيس فرانسوا هولاند لدقيقة واحدة.. نعم لدقيقة واحدة فقط لأنني أدرك قيمة الوقت عند سكان الضفة الشمالية للمتوسط.. دقيقة واحدة أذكّره فيها بزيارته للجزائر وحجم التكريم الكبير الذي حظي به.. ثم أختم كلامي بالقول: حرام عليك يا رجل.. والله حرام عليك.. كيف سنبتلع الإهانة بعد كل هذا الاستقبال والمغانم الاقتصادية والوعود الرسمية السخية.. كيف تصرّ إلى آخر لحظة على التجاهل عندما تختار كلمات عامة وعائمة وتتحدث عن مأساة وحرب هكذا دون تحديد، وكأنّ فترة الاستعمار الفرنسي للجزائر كانت معركة متكافئة بين جيشين ودولتين، ولم تكن إبادة منظمة أكلت الأخضر واليابس في حينها وظلت تنخر كياننا سنين طويلة امتدت إلى ما بعد الاستقلال. لكنّ ما جدوى هذه الثرثرة، وما الفائدة المرجوة من المقابلة لو تحققت فعلا.. نعم لا فائدة على الإطلاق لأن الرجل، ومن على شاكلته، لا يفهم لغة (حرام) التي نستعملها نحن في أدبياتنا وثقافة مجتمعنا.. سوف يبتسم في أحسن الأحوال لأنه أدّى مهمته على أكمل وجه، ونجح فيما جاء من أجله مائة في المائة، وحافظ في الوقت ذاته على مشاعر شعبه فقد وصل إلى الجزائر وعينه، أو عيون مستشاريه وأركان حكومته، على آخر استطلاعات الرأي في الشارع، التي أعلنت أن النسبة الأكبر من الشعب الفرنسي تتجاهل حق الجزائريين في الحصول على اعتراف بالجرائم التي ارتكبها الاستعمار ومن ثم الاعتذار عنها. نعم.. لقد جاء الرجل من أجل أهداف اقتصادية واضحة المعالم أثناء التوقيع عليها، وواضحة النتائج أيضا بعد سريان العمل بها، وهكذا ينبغي لأمثالي من (السذّج) أن يستيقظوا من سباتهم العميق ويدركوا أن مراسم الاستقبال والتكريم والشهادات الفخرية والهدايا لا تعني شيئا لهولاند وأعوانه، لأن مربط الفرس عندهم في اقتصادنا ومجالات الاستثمار عندنا ومواطن الربح والأسواق. لقد خطا الرجل خطوة جريئة، أو هكذا بدت لنا، عندما اعترف بالمجازر التي ارتكبتها فرنسا الاستعمارية في حق الجزائريين الذين خرجوا للتظاهر بشكل سلمي في باريس بتاريخ السابع عشر من أكتوبر عام واحد وستين من القرن الميلادي الماضي، وربما سرح بنا الخيال في آفاق مرحلة قادمة يتقدم فيها هولاند خطوات أخرى، ويطوي ملفّ القضية عندما يعترف بجرائم الاستعمار ويعتذر عنها باسم الجمهورية الفرنسية. ومرّت الأيام وبدأ العدّ التنازلي للزيارة التاريخية، وكيف لا تكون كذلك وقد تزامنت مع احتفال الجزائر بالذكرى الخمسين للاستقلال.. وتبخّرت الآمال بعد أن ظلت المؤشرات العامة الصادرة عن قصر الإليزيه في منأى عن مصطلحات الاعتراف والاعتذار وما شابهها، فضلا عن التعويض. وعودة إلى تلك الدقيقة التي تمنيت الحصول عليها من وقت هولاند، لأعدل عن رأيي.. فبدلا من (حرام عليك يا رجل) سوف أقول: (شكرا يا رجل).. نعم شكرا لك أيها السيد الفرنسي النبيل الذي يدرك أهمية الحفاظ على مصالح بلاده ويستميت في الدفاع عنها والتمكين لها.. شكرا لك لأنك علّمتنا درسا في احترام إرادة الملايين من مواطنيك الذين يرفضون الاعتراف والاعتذار للجزائريين عن فترة الاستعمار. يقول الشاعر: نعيب زماننا والعيب فينا.. وما لزماننا عيب سوانا.. وعلى هذا المنوال يمكن القول إننا قد نعيب ضيوفنا والعيب فينا.. وقد ظهرت العيوب في تلك التصريحات التي أحالت ملفّ الذاكرة إلى التاريخ وحده، أو تلك التي أبعدت الشبهة عن الجزائر الرسمية في أي طلب للاعتراف والاعتذار.. والحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه. عزاؤنا فقط فيما حدث ويحدث أن ذاكرة شعوب الشرق طويلة، على عكس ما عند الغرب، وهكذا نتذكر التاريخ بتفاصيله ونتألم حتى الآن لأحداث مرت عليها قرون عديدة.. والشعب الجزائري جزء من الشرق الكبير في ثقافته وقيمه، ولن يصاب بفقدان جماعي للذاكرة، ولن تتحول الدماء التي سالت إلى ماء، وسيأتي اليوم الذي تتغير فيه المعادلات الراهنة ويتحقق المأمول في الاعتراف والاعتذار وحتى التعويض.