ليس هناك اليوم حسب زعمي ، ما يسمى بالأجناس الأدبية ، نظرا للتداخل الحاصل فيما بينها ، بحيث تلتقي وتتعانق في فن الرواية ، إذ تشكل وهي مجتمعة ، مساحة شاسعة للقول ، لم تكن متاحة من قبل ، وهي اليوم - أي الرواية - أشبه ما تكون بتلك البحيرة الكبيرة ، التي تصب فيها جميع الأنهار ، بكل روافدها ، وحتى الشعر أصبح واحدا من هذه الروافد ، التي تمنح العمل الروائي الكثير من لغته الصافية . ومن هذا المنظور أقول : أن النثر بشكل عام ، مدين للشعر فيما وصل إليه من تنوع ، عن طريق الشعراء المعاصرين ، الذين شحنوا الكلمات بقرائن لم تكن موجودة من قبل ، فصار النثر يتنفس أنفاس الشعر فيما نكتبه اليوم . ويبقى النثر فن المستقبل ، لا شك في ذلك ، لأنه يتيح مساحة هائلة لحرية القول ، لا يتحها الشعر لمن أراد ذلك ، إلا في حدود الالتزام بقواعده المعروفة ، سواء في القصيدة العمودية أو الحديثة ، ثم إن الشعر دخلت عليه الكثير من المسموعات ، التي أبطلت مفعوله كفن جماهيري ، يعتمد على السماع أكثر مما يعتمد على القراءة ، التي تكون بين الفرد ونفسه ، وفي هذه الحالة ، نادرا ما تحقق القصيدة ذلك التفاعل ، الذي ينشأ بين الشاعر ، وقارئ الشعر ، وهذا يعود لقدرة الشاعر ، الذي يستطيع أن يضعك في حضرة الشعر. ما من كاتب وهو في بداية الطريق ، إلا وحاول أن يكتب الشعر ، وهو يشتعل عاطفة ، مدفوعا بقوى داخلية لا يستطيع ردها ، فيكتب ما يكتب ، واضعا الغليان الداخلي على الورق ، وهو لا زال يتعلم أوليات اللغة من نحوها وصرفها ، وليس له أكثر من بضعة مئات من المفردات ، محاولا استثمارها في كتابة الشعر الذي لا يقرأه في البداية إلا للمقربين جدا منه ، فإن لقي استحسانهم ، تجرأ في المرات القادمة للكشف عن خربشته للآخرين ، ثم يسترسل مستمرا في كتابة الشعر ، من يوم لآخر ، وهو كالقدر»بكسر القاف« يغلي بمشاعر لا حصر لها ، محاولا إدخالها داخل كلمات لم تعد تقوى على حملها ، إذا ما ساقها شعرا ، وهنا لا بد له من البحث عن وسيلة أخرى تتسع لحمل رؤاه ، والوسيلة موجودة في اللغة ، التي ترافقه في القبض عن الجانب الملتهب والضاج من الحياة ، وحتى المظلم منها ، والانتقال إلى تجربة أخرى ، لم يعد التعبير فيها عن» حالة « ، بل صار التعبير فيها عن » حالات « شتى . هكذا يتم الانتقال من كتابة الشعر ، إلى كتابة الرواية ، ومعظم كتاب هذا الفن الكبار ، بدأوا بكتابة الشعر آملين أن يتحقق معهم ما كانوا يصبون إليه ، فتكشف لهم أثناء السير ، أن بعضا من صبواتهم لم تتحقق معهم ، فانتقلوا إلى كتابة الرواية ، مستأنسين بروح الشعر ، الذي هو سمة الأصالة في كل الفنون ، والعشق هو ذلك الدافع السحري الذي يدفعنا للكتابة ، كما يدفعنا للقول : إذا لم تكن عاشقا ، فلن تكون شاعرا ، وإذا لم تكن شاعرا ، فلن تكون روائيا أو ناقدا ، ولا مبدعا بشكل من الأشكال. عندما ينتقل الشاعر من كتابة الشعر ، إلى كتابة إلى كتابة الرواية ، فهذا لا يعني أبدا ، أن الشاعر لا يحب الشعر ، وإنما يسعى ليخوض تجربة جديدة في حقل الكتابة ، آملا أن يتحقق معه ما كان يأمله من هذه التجربة ، تاركا انفعالاته ، التي كانت لا تستطيع أن تعبر ألا عن حالة فريدة ، في حين أن الرواية تستطيع أن تعبر عن حالات ، تتداخل فيها صور الخير والشر ، من خلال صراع الإنسان مع أخيه الإنسان ، ولكن هذا الانتقال ، لا ينجح إلا مع المبدعين المتميزين القلائل من الروائيين ، الذين لا تخلوا كتاباتهم من روح الشعر ، الذي يبقى حاضرا في كل الفنون ، اليوم وغدا ، والى ألف سنة مما نعد. صحيح أن الرواية فن الحاضر والمستقبل ، لما لها من القدرة على استقراء الماضي والحاضر ، ولما لها أيضا من قدرة على تصوير ما هو مبهم في أذهان الناس ، وتضعهم في واقع غير متوقع ، وتفتح أذهانهم على ما لم يكن في حسبانهم ، وتغرس فيهم بذرة الوعي ، من خلال وعي الكاتب الذي يشحذ ذهنه مرات ومرات ، وهو يحرك شخوصه ، التي تتحرك في أزمنة وأمكنة تتقارب وتتباعد في الوقت ذاته ، ومن هنا يمكن القول ، أن الرواية فن الوعي المطلق ، غير أنها وهي تتحرك باتجاه المستقبل ، يبرز في طريقها فن جديد اسمه السينما ، وقد استغل كل ما حققته الرواية عبر مسيرتها ، مضيفا إليها ما لم يكن عندها ، ففي الفيلم نجد الكلمة والصورة والموسيقى والرقص والغناء ، وكل الفنون الأخرى ، وهو ما تعجز عنه الرواية كفن إمتاع ، وصار الكثير من الناس يكتفون بمشاهدة الأفلام والمسلسلات والأشرطة العلمية سواء عن طريق دور السينما أو عن طريق شاشة التلفزيون وهم يعدون بمئات الملايين عبر العالم ولا يلتفتون إلى قراءة الرواية بشكل المطلوب ، وخاصة في العالم العربي ، الذي تكاد تصل فيه المقروئية إلى الصفر ، تضاف إلى هذا الأمية بمفهومها القديم ، وبمفهومها الجديد ، الذي نعني به الأشخاص الذين يحسنون القراءة ولا يقرأون ، والخلاصة أن فن المستقبل يكمن في السينما التي تعتبر بحق الفن الجماهيري الأول غالى جانب كرة القدم.