فرح الثائرون بإسقاطهم حكاما لم يكن سقوطهم واردا لهم حتى في أحلك الكوابيس، ولأن الحالة الجديدة أربكت قُوَى الدعم الخارجي للدكتاتوريات العربية، وبدت كأنها تهديد مباشر لمصالحها الحيوية الدائمة، فقد أعلنت حالة الطوارئ القصوى، وبسرعة أدخلت المجتمعات الثائرة في مفترق طرق. يؤكّد الشارع العربي أن نظامه السياسي الرسمي المقيم في مختلف العواصم العربية فقدَ كل شرعية للبقاء في الحكم، ولم يبقَ له غير زجامعةس أنتجتها المؤسسة الكولونيالية الغربية وتبنّاها في لحظة عُقمٍ طارئة أصابته بعد فترة خصوبة ثورية، هزّت عروش الاحتلال في أكثر من بلاد عربية، وراح هذا النظام يتشبّث بآخر ما لديه من آلية البقاء لإثبات وجوده ولو كان ميتا، يعقد بها الاجتماع تلو الآخر حتى وإن كان في الوقت الضائع، ويكون اجتماع الدوحة- التي تحولت إلى عاصمة لعرب القفز في المجهول- يهدف أساسا إلى العمل من أجل إخراج سوريا زالمحافظةس من حظيرة الأعراب، وإسقاط صفة العروبة- بمفهومها الجديد- عنها، في وقت أصبحت فيه هذه العروبة لعنة مستمرَّة تطارد تاريخا وجغرافية تعمل ثقافة حماية الأقليات على تفتيتها والتخلص منها بشتى الطرق، خاصة وأن الأمور تحولت إزاء الشأن السوري، من تغيير النظام في سوريا سلمياإلى الأفضل، إلى تغيير سوريا نفسها بالتدمير والقتل والتهجيرنحو الأسفل . سوريا بدكتاتوريتها الثابتة كانت أرحم بالقضية العربية المشتركة من غيرها، فقد كانت آخر قلاع الممانعة التي كان العرب يهشون بها على قضيتهم وإن كان لها في ذلك مآرب أخرى، فوحْدها كانت ضد العدوان الصهيوني على لبنان وغزّة بمدِّها المقاتلين فيهما بالسلاح والذخيرة الحربية، عندما اكتفى بعض العرب ببيانات التنديد التي تُشبِه التأييد، واختفى البعض الآخر وراء الشرعية الدولية التي طالما كانت باطلا أريد حق، وغيَّر البعض الثالث خندقه جهارا نهارا، ولم يقتفوا حتى أثَر الأتراك وهم زيُقلِّصونس من حجم علاقاتهم مع إدارة الكيان الصهيوني احتجاجا على الجرائم المقترفة ضد الإنسانية في الفلسطينيين واللبنانيين، بل أصبحت إيران المسلمة الشقيقة العدو الأول لعرب هذا الزمان، وتحولت الإدارة الصهيونية العدوّة التاريخية في فلسطين إلى مرتبة الشقيق الذي تُشَدّ الرحال إليه في السر كما في العلن، وضمرت القضية الفلسطينية فتُرِك شعبها في مهب الريح، يلهو به الزمن وتذروه المستوطنات السرطانية خارج حلمه في دولة ليست إلا جزءا من ملهاة دولية كبرى، بل لم تعد تلك المعضلة مسألة عربية ولا هَمًّا إسلاميا ولا مصيرا قوميا ولا حتى مشكلة إنسانية تدمي القلوب التي قُدَّت من حجر عند بعض الأعداء ولكنها أماتت قلوبهم . فرح الثائرون بإسقاطهم حكاما لم يكن سقوطهم واردا لهم حتى في أحلك الكوابيس، ولأن الحالة الجديدة أربكت قُوَى الدعم الخارجي للدكتاتوريات العربية، وبدت كأنها تهديد مباشر لمصالحها الحيوية الدائمة، فقد أعلنت حالة الطوارئ القصوى، وبسرعة أدخلت المجتمعات الثائرة في مفترق طرق، وحشرتها به في زاويتين لا ثالثة لهما : إما العودة إلى الدكتاتورية ولكن بشكل مغاير، وإما التحلّل والتفسّخ والتفتّت، والسيرُ في الطريقيْن يؤدِّي حتما إلى الارتماء المخزي في أحضان الغرب المناهض ليقظة الشعوب العربية، خاصة بعدما تحوّل مناوئو هذا الغرب ومجاهدو الأمس إلى حلفاء له اليوم، وكما كانت دماء الشعوب العربية تُسفَك خلال السنين الماضية بحجة استجلاب الأمن والاستقرار، فهي اليوم تُراق باسم نشر الديمقراطية بشكلها الذي أفلست به في الغرب، ومثلما تشرذمت القوى السياسية الوطنية والقومية إزاء الحالة العربية الجديدة، انقسمت المرجعيات الدينية إلى قسميْن يُهدِّدان المجتمعات العربية، بل والعقيدة الإسلامية برمتها : أحدهما يستنفر الهمم وأصحاب العقول البسيطة من أجل الإطاحة بكل ما هو ثابت ، لأن ذلك من الإيمان بالدين، وترْكه خروج عن الملة، وثانيهما الذي يشبهه في زرع الفرقة، يفتي بضرورة إبقاء الحال على حاله، فذلك جوهر العقيدة، وأن أي خروج عن الحاكم هو خروج عن إرادة الله، ومع ازدياد تيَهان المسلمين- الذين استقطبهم ضلال علمائهم- ارتفعت وتيرة الفتن، ومعها ارتفعت معدلات الموت الذي لم يعد يستثني أحدا، واضمحل زشبحس النهضة التي كان يراها المواطن العربي في ثوراته . الفوضى ''الخلاّقة'' الأمريكية التي انتشر فيروسها في الخارطة العربية مع بداية العشرية الثانية من هذه الألفية الثالثة، لم تُثمِر غير الخراب والموت والقنوط، فهل العراق الذي تحالف ضدّه الشقيق مع العدوّ، وتم غزوه واغتيال رئيسه صدام حسين، هو اليوم وبعد عشْرٍ عِجاف نموذج للديمقراطية الغربية التي بشّر بها الغزاة وهلل لها العملاء، أم أنه أصبح مشتلة للطائفية المقيتة ومرتعا لكل أنواع الموت ؟ ولتونس التي أشعلت فتيل الحرائق في القصور العربية هي اليوم أحسن من دون زين العابدين بن علي ؟ وهل مصر التي أسقطت فرعونها هي أفضل بلا محمد حسني مبارك بعد اليُتْم الذي فُرِض عليها ؟ وهل ليبيا التي قطعت على زعيمها معمر الڤذافي حلمه في حكم امبراطورية الفقر الإفريقي هي أكثر ثراء في الديمقراطية من جماهيرية العقيد ؟ إن الإجابة الصادقة هي التي تُحدِّد ما إذا كانت سوريا من غير بشار الأسد هي الجنة التي تعِد بها المعارضة ويُصر العُرْب والغربعلى التبشير بها بحد السلاح...