عودة حمى الإضرابات إلى عدد من القطاعات على غرار الصحة ، يطرح ومنذ الآن مخاوف حقيقية من احتمال انفلات الوضع على مستوى الجبهة الاجتماعية خصوصا مع الدخول الاجتماعي القادم، خاصة وان هذه الحالة غير الطبيعية تتزامن مع حراك سياسي مشبوه وجدل مسبق حول الرئاسيات، وهذا في ظل مخاوف اقتصادية مرتبطة بتراجع مداخيل الدولة من العملة الصعبة بعد تدني أسعار المحروقات في الأسواق العالمية. الذي يجري على مستوى الجبهة الاجتماعية، وهل من الطبيعي أن تعود موجة الإضرابات والاحتجاجات المهنية في هذا الظرف بالذات، رغم الأموال الطائلة التي صرفتها الحكومة السابقة والحكومة الحالية لشراء السلم الاجتماعي، من خلال رفع الأجور بصفة ملموسة في جل القطاع وبأثر رجعي يعود إلى سنة 2008؟ هذه مجموعة من أسئلة كثيرة تطرح على مستويات مختلفة شعبية وإعلامية وسياسية وأكاديمية، وهذا على خلفية سياسة شد الحبل بين الأطباء وشبه الطبيين وعمال القطاع من جهة ووزارة الصحة من جهة أخرى، علما أن الإضرابات امتدت إلى قطاعات أخرى كثيرة، وكل المؤشرات تؤكد بأن الحكومة مقبلة على أيام صعبة، فالجبهة الاجتماعية التي تقف منذ فترة على صفيح ساخن، ستزيد سخونة، وهو ما يهدد بدخول اجتماعي جد حار، فالصيف الذي عادة ما تتراجع فيه الاحتجاجات الاجتماعية بسبب العطل وبسبب الحرارة والتعب الذي يرافقها، يكون في المقابل مناسبة للتحريك السياسي وللإشاعة، خاصة وأن البلاد تعيش منذ فترة حالة من الترقب سببها الجدل المتواصل حول مرض الرئيس وحول الانتخابات الرئاسية المقبلة. إن سياسة شراء السلم الاجتماعي التي اعتمدت خصوصا بعد اضطرابات »السكر والزيت« في جانفي ,2011 مكنت ربما من الحصول على هدوء واستقرار نسبي مكن من تفادي السيناريوهات التي كانت تبحث عن الزج بالجزائر في متاهات الفتن العربية، لكن تبين مع مرور الوقت بأنها غير كافية، بل قد تشكل عاملا سلبيا يتهدد الاستقرار بشكل مستمر، فالليونة التي تقابل بها السلطات العمومية احتجاجات الجبهة الاجتماعية ولدت حالة من التسيب سمحت حتى لمن لا حق له بأن يدعي الحق ويحتل الشارع لفرض مطالبه. لا يجب إلقاء اللائمة على المهنيين في قطاع الصحة أو غيره من القطاعات، فالوضع المهني والاجتماعي رديء جدا، وهناك تأخر كبير في معالجة مشكل الأجور، خاصة وأن الحكومات المتعاقبة اعتمدت على سياسة غير سوية، حتى لا نقول سياسة خداع اتجاه الجبهة الاجتماعية، فما تمنحه في رفع الأجور باليمين تأخذه بالشمال عبر رفع غير معقول لأسعار مختلف المواد الاستهلاكية والخدماتية الأساسية. المشكل أن الحكومة بدأت تشعر أنها لن تقدر على مواكبة دوامة الاحتجاجات الاجتماعية والمهنية، وشراء السلم الاجتماعي قد لا يكون متيسرا في المستقبل، فالأزمة الاقتصادية التي تعصف بالاقتصاديات الكبرى قد تكون لها آثار ولو غير مباشرة على الاقتصاد الوطني، وتراجع سعر البترول في الأسواق العالمية، فضلا عن تناقص حجم واردات بعض زبائن الجزائر على غرار إيطاليا من الغاز الطبيعي، كل ذلك سيؤثر حتما على مداخيل البلاد من العملة الصعبة، صحيح أن هناك مجالات جد مشجعة على الاستثمار، خصوصا الاستثمار العربي والذي أبان عن فرص كثيرة، لكن ذلك لن يكفي لتحريك الاقتصاد الوطني الذي لا يزال قائما على الريع النفطي ويتأثر بتقلبات أسعار البترول في الأسواق الدولية. واللافت أن موجة الإضرابات التي تجتاح عدد من القطاعات تتزامن مع استمرار الجدل حول مرض الرئيس، وتطوره إلى أطروحات جديدة كالمطالبة برئاسيات مسبقة، والحديث عن حالة الانسداد المؤسساتي الذي يرتبط بغياب الرئيس عن البلاد مدة فاقت الشهر، وربما أن ذلك هو الذي يجعل الإضرابات تثير المخاوف، علما أن الجدل حول الرئاسيات المقبلة يأخذ أشكالا مختلفة، فهو عند البعض يرتبط بمرض الرئيس وبما يسمى بضرورة تفعيل المادة 88 من الدستور التي تتحدث عن حالة العجز والشغور، ومن ثمة التفكير في انتخابات رئاسية مسبقة، لكن البعض الآخر يثير المسألة من زاوية أخرى، ويعتقد بأن »ماكنة صناعة الرؤساء« معطلة وغير قادرة على الانطلاق بشكل طبيعي لترتيب الفترة المقبلة والسماح بالالتفاف حول مرشح »إجماع«، وهذا بغض النظر عن الاسم والانتماء السياسي أو الحزبي. والذي تتبع الجدل الذي أثاره المستشار السابق برئاسة الجمهورية، المختص في القانون الدستوري، السعيد بوشعير، من خلال حديثه عن دور العسكر في السياسة، يصل حتما إلى قناعة بأن هناك حروبا خفية تجري على أكثر من صعيد، وإن كان طرح هذا الموضوع قد يكون مهما من الجانب الأكاديمي وقد يثمر مستقبلا من خلال فتح نقاش هادئ وحقيقي حول دور المؤسسة العسكرية وعلاقة السياسي بالعسكري في الجزائر. وغير بعيد عن حالة الانسداد وغياب مؤسسات الدولة كما يروج له البعض إعلاميا وسياسيا، طرحت مسالة في غاية الأهمية تتعلق بالوضع في شمال مالي، وكيف أن فرنسا وجدت نفسها في راحة تامة وقد انفردت بترتيب الوضع في هذه المنطقة الحساسة التي لها تأثير مباشر وخطير على أمن الجزائر واستقرارها. ما يجري في شمال مالي وفي تونس وفي النيجر وليبيا هو الذي جعل كتابة الدولة الأمريكية حول الإرهاب تقدم تقريرا إلى الكونغرس تضمن حديثا عن الأخطار الأمنية التي تواجهها الجزائر وأن القاعدة لا تزال تشكل تهديدا بالنسبة لها، وإن سجل التقرير بأن الجزائر نجحت في سنة 2012 في شل المجموعات الإرهابية التي انحصر نشاطها في الجبال شرق البلاد وفي الصحراء، كما أشاد التقرير بالعمل الكبير الذي قامت به الجزائر ولا تزال في محاربة تمويل الإرهاب وتجريم دفع الفدية للمجموعات الإرهابية، ويجب وضع ملاحظات التقرير الأمريكي ضمن إطارها »الإعلامي« الذي يهم أعضاء الكونغرس، ولا يشكل هذا التقرير كما قد يعتقد البعض أي إشارة من واشنطن لطمأنة الجزائر بأنها قد خرجت نهائيا من دائرة الاستهداف الذي يظل المحرك الأساسي لكل التحريك الأمني الحاصل في منطقة الساحل جنوب الصحراء ومناطق أخرى من العالم.