● إن الأحزاب القوية، هي الضمانة الأولى لعدم فساد نظام الحكم. لذلك انتقلت معظم الدول من سياسة الحروب قبل الحرب العالمية الثانية إلى سياسة الأحزاب بعدها. بيّنت التجارب البشرية أن الأنظمة الأحادية الحزب، عادة ما يتفشى فيها الفساد والظلم والدكتاتورية. كما بينت الانقلابات العسكرية أن أسباب وقوعها ترجع إلى الدكتاتورية والقمع وتفشي الفساد الاقتصادي والاجتماعي بالدرجة الأولى. وعمليا هناك نوعان من الانقلابات: انقلاب للوصول إلى الحكم، وانقلاب للبقاء في الحكم، وكلاهما خطر على مصلحة البلاد واستقرارها ورقيها الاقتصادي. وقد أحصى غريغور فيرغوسون في كتابه الصادر عام 1987 بعنوان »الانقلاب السياسي: مسح ميداني«، وقوع 311 محاولة انقلاب بين نهاية الحرب العالمية الثانية و1987 في 79 بلدا، نجح منها 170 انقلابا، منها 13 في الأرجنتين. ومعلوم أن الدكتاتورية التي كانت سائدة في دول أمريكا اللاتينية كانت السبب المباشر في الانقلابات. وقد حدد الدارسون للظاهرة عدة أسباب منها فقدان الرئيس الحاكم للتأييد الشعبي، ولم تبق هناك أي طريقة لاستبداله إلا بطريقة الانقلاب، لأن الدساتير في الدول الانقلابية عادة ما تنص على عهد مفتوحة للرئيس، فضلا عن كون الانتخابات مزورة وغير ديمقراطية. وعادة ما يصدر الإنقلابيون بيانات مرقمة: »بيان رقم,1 ثم بيان رقم 2 وهكذا، يعلنون فيها أهداف الانقلاب، وعلى رأسها '' إنقاذ البلاد من الفساد والدكتاتورية«. وفي الوقت الراهن، أصبح الإنقلابيون يضيفون عبارات أخرى كقولهم: »سيتم تنظيم انتخابات ديمقراطية بعد سنة أو سنتين، وأن قادة الانقلاب لا يترشحون لها.« في بعض الأحيان، يؤدي الانقلاب إلى تغيير مقبول، لكن في حالات كثيرة يتم فقط تغيير الرموز الحاكمة برموز أخرى، ليتغير الفاسدون والدكتاتوريون وبقاء نفس ممارسات الحكم. وإذا كانت الانقلابات في الغالب هي مصطلح يطلق على من يحاولون الانقلاب على الحكام، فإن هناك انقلابات أخرى عادة ما يقوم بها الحاكم نفسه، وهي التي تسمى »الانقلاب على الدستور«، وهو ما أصبح يعرف في الوطن العربي مثلا ب توريث الحكم مثلما حدث في سورية عندما تم تعديل الدستور بما يسمح للرئيس الحالي بشار الأسد بخلافة والده بعد وفاته، لأن الدستور حينذاك كان يحدد سنا لم يكن يسمح لبشار الأسد بتولي مقاليد الحكم. وبعد سنوات من حكمه، ازداد السخط الشعبي على بشار الأسد، وهكذا تشهد سورية اليوم حربا أهلية قاتلة بين جيش نظامي وجيش معارض، وتدخل دولي سافر، فضلا عن معاناة الشعب السوري ولجوء آلاف منه لعدة بلدان. إن الانقلابيين من أجل الوصول إلى الحكم، أو الانقلابيين من أجل البقاء في الحكم، يواجهون جملة من المصاعب، أولها نمو الوعي الجماهيري الرافض لكل شكل من أشكال الانقلاب، والمتحمس للممارسة الحكم بطريقة ديمقراطية سلسة بفضل الانتخابات النزيهة، هؤلاء الجماهير ينقلبون قوة فاعلة على خشبة المسرح السياسي المعارض للانقلاب، مثلما يحدث في مصر حاليا، حيث لم تتوقف المسيرات والمظهرات المنددة بالانقلاب والداعية لعودة الشرعية، وهو مؤشر واضح على أن العملية الانقلابية لم تعد عملية سهلة مع نمو الوعي في الوقت الراهن. كما أن الحقوق الدستورية قد تطورت في جل دول العالم، وأصبح الوصول إلى الحكم يتم عن طريق الانتخابات، وأصبح التمثيل في البرلمان وسيلة لخلق التوازن في نظام الحكم وفي المجتمع، وبالتالي أصبح الانقلاب منبوذا داخليا وخارجيا. وفي بعض الأحيان تقوم المنظمات المدنية الدولية بحملة سياسية وإعلامية وحتى قضائية ضد الانقلابيين، ويقوم الرأي العام الدولي بالضغط على حكوماته لثنيها عن الاعتراف بالأنظمة الانقلابية أو الدكتاتورية. إضافة إلى هذا، فإن الانقلابيين دائما يواجهون صعوبات خارجية في تسويق الانقلاب وإقناع الرأي العام الدولي بجدواه، وقد يؤدي الفشل في إقناع الخارج به إلى حدوث انشقاقات في صفوف الانقلابيين وحتى صفوف الجيش، ما قد يؤدي إلى انقلاب جديد معاكس، فتدخل البلاد في دوامة مع الانقلاب الجديد مثلما دخلتها مع الانقلاب السابق. لذلك، ومنذ مطلع التسعينيات بدأت كل الدول تقريبا تنتهج سياسة الأحزاب وسياسة الديمقراطية كوسيلة مثلى لممارسة الحكم والتداول على السلطة، كما اتخذت عدة قرارات ترفض الاعتراف والتعامل مع الأنظمة الانقلابية، حيث قررت منظمة الوحدة الإفريقية مثلا في قمة الجزائر عام 1999 عدم الاعتراف بالأنظمة الانقلابية، وقد تم تجميد عضوية عدة بلدان بسبب الانقلابات العسكرية حتى عادت إلى الحياة الدستورية. لكن في الحالة المصرية، أي حالة انقلاب الجيش المصري على الرئيس محمد مرسي لم تلتزم منظمة الإتحاد الإفريقي الوحدة الإفريقية سابقا بقرارات قمة الجزائر، ولم تجمد عضوية مصر. حتى الولاياتالمتحدةالأمريكية لم تجمد مساعداتها لمصر رغم أنه سبق لها أن جمدت مساعداتها لكل الأنظمة الانقلابية. وهذا يعني أن الانقلابيين عادة ما يراهنون على الدعم الخارجي أكثر من التأييد الشعبي الداخلي. وفي هذه الحال فإن الانقلابيين عادة ما تكون أيديهم مكبلة بسبب الولاء للخارج، وهكذا ينتجون وضعا سياسيا جديدا، سوف يؤدي بدوره إلى حدوث انقلاب جديد، بسبب ممارسات دكتاتورية وتفشي الفساد والقمع ومنع حرية العمل السياسي والتضييق على حرية التعبير واللجوء للاعتقالات والمحاكمات غير العادلة وحظر التجول وإعلان حالة الطوارئ، وغيرها من الإجراءات والأساليب المعهودة كتلك السائدة في مصر بعد الانقلاب على . وبالتالي فإن الضمان الأول لاستقرار نظام الحكم، ليس في القيام بالانقلاب بهدف الوصول إلى الحكم لكون الرئيس أخطأ، وليس في الانقلاب للبقاء في الحكم بحجة أن الرئيس الحاكم هو الأفضل، بل في وجود دستور يقر بالتعددية السياسية، وتقاليد حكم تقوم على سياسة الأحزاب وليس سياسة الحرب وسياسة الانقلاب. بعد الحرب العالمية الثانية تحديدا، لجأت عدة بلدان لانتهاج سياسة الأحزاب، باعتبارها الضامن لاستقرار البلدان ونموها الاقتصادي، والضامن لعدم العودة للحروب والانقلابات باعتبارها أسرع وسيلة لانهيار الدولة وتفشي الفوضى وعدم الاستقرار. وعليه فإن البلدان التي تحارب الأحزاب، وتضع عليها التقييدات والتكبيلات والعراقيل، وتقفل وسائل التعبير الحر ومنابره، تمهد وتؤسس لعدم الاستقرار. إن الأرجنتين والبرازيل في أمريكا اللاتينية كانتا من أشهر دول الانقلابات العسكرية، لكنهما بعد انتهاج سياسة الأحزاب، أصبحتا من الاقتصاديات الناشئة. إن سياسة الأحزاب تعني أن يكون للأحزاب وجود فعلي في الحياة السياسية، ولا يعني أن تكون الحياة السياسية تعج بأحزاب غير فاعلة أو ما يسمى ب »أحزاب الموالاة« أو كما يطلق عليها في الجزائر ''لأحزاب الموسمية'' التي تظهر فقط خلال الانتخابات للبزنسة بالعملية الانتخابية. كلما اقترب موعد انتخابي في الجزائر، ندرك أننا بلد بدون أحزاب، ويستشف ذلك من خللال أحاديث النخبة ووسائل الإعلام التي تستخرج من الأرشيف السياسي مجموعة من الشخصيات التي تجاوزت الستين وأحيانا السبعين للتحدث عن حظوظها في الانتخابات. إن اللجوء إلى الأرشيف يعني أن الأحزاب لا تكوّن إطارات، ولا تنتج أفكارا. وهذا يعني أن هناك خلل ما في الظروف المحيطة بالعمل الحزبي خاصة والعمل السياسي بصفة عامة، وهو وضع لا يطمئن أبدا.