صار الحديثُ عن الجنوب في الجزائر أيقونةً بالنسبةِ للبعضِ الكثير؛ هنالك طرفان يركّزان على هذه المسألة -وربما صار الجنوب في المستقبل مسألةً إذا لم نتدارك الوضع ونعمل على إنتاج الحلول لمشكلات أهل الجنوب- طرفان على طرفي نقيض: أولهما شريحةٌ واسعةٌ من أهل الجنوب الوطنيين المخلصين ممن ترى أنها تمنحُ للجزائر نعيمَها والجزائرُ تحرمها هذا النعيم، والطرفُ الثاني مغرضٌ مشكوكٌ في انتمائه وولائه للوطن يريدُ أن تمتدّ يدُ الأجنبي للجزائر من بوابة الجنوب .!! هجمةُ الربيع العربي الشرسة والتي زلزلت كل الدول العربية لم تستطع رغم الآلة الرهيبة التي كانت تحركها أن تقترب من حياض الجزائر لماذا؟ لأننا بكل بساطة ذقنا ويلات الدم والنار، وجرّبنا كيف يمكن للوطن أن ينفلت من بيننا دون أن نشعر، والآن نشعر بكثير من الارتياح لأن تلك العاصفة الجحيمية الهوجاء لم تمر فوق رؤوسنا ولله الحمد ولكن ... لا ينبغي أن نسترسل تجاه هذا المدّ التفاؤلي وندسّ أعيننا في التراب ونقول إن الأمور بخير وكل شيء تمام !!! ليست الأمور بخير أيها السادة: جنوبناُ العزيز، و طننا الحبيب جنوب لا نريده أن يتحوّل إلى مسألة . الأحداث الأخيرة في غرداية وإن حاولت السلطة أن تقنعنا أنها كانت ناراً وصارت رماداً، وصوّر لنا الإعلامُ لقطات العناق وتبادل الأحضان بشكلٍ يوحي أن الأزمة انتهت، إلا أن تحت الرماد جمرٌ مستعر ينبغي الإسراع بضخّ الثلج إليه. السلطة في البلاد ممثلةً في رئيس الحكومة تبدي حسن نيتها بطريقة الرجل المبروك!! نحن لا نشكُّ في إخلاص جانب السلطة تجاه المشكلة، لكن هذا لا يكفي لحلّ مشكلاتٍ تتعلقُ بالهوية . حين يشعر جزءٌ من الشعب بأنه مغبون مهضوم الحقوق لا بد أن ندرك أن هذه هي الخطوة الأولى في طريق فقدان الثقة في الوطن، وتحوّل أهم خصيصة في ميزان الهوية إلى عنصر قلِق يمكن أن يختلّ الميزانُ كلُّه بسببه !!! لم يكن أحد يتوقع أنه سيرى السودانَ قسمين، ولم يكن أحدٌ منا يتوقع أن يسمع جزائرياً يدعو للتدخل الأجنبي بحجة الاضطهاد الطائفي !!! لا يمكنني أن أتوقع أن تصبح همومُ أهلِ الجنوب مسألة ينظر فيها مجلس الأمن !! الخطرُ يُحدق بهذا الوطن العزيز ولابد من تدارك الأمر عاجلاً غير آجل، الدولة الجزائرية التي نرغبُ جميعا في أن تظلّ صامدةً مستقرة لابد أن تعي حجم المشكل حتى لا يتحول الجنوب إلى مسألة !! سأتكلم عن إنتاج الحلول لأنني أؤمن أن الحلول لا تُصطنع ظرفياً، الحلول ليست قراراتٍ ضمن خُطبٍ جماهيرية، وقد رأينا كيف استخفّت بعضُ وسائل الإعلام بقراراتِ رئيس الحكومة التي رفض مديرُ شركةٍ بترولية تنفيذها !!! لسنا بحاجة لمزيدِ من صور امتهان السلطة والعبث بسلطان الدولة لأن هذا أيضا ليس لصالح ميزان الهوية الذي تحدثنا عنه. إنتاجُ الحلول أقصدُ به تكليف الخبرات الاقتصادية الوطنية الكفؤة بإعداد تطبيقات اقتصادية فاعلة لصالح المنظومة الشبابية في الجنوب، وعلى رأسها الإعمار الاستثماري وذلك بضخّ استثماراتٍ هائلة في كل الجنوب، الدولة مجبرةٌ اليوم على إنتاج الحلول الكفيلة بتحويل الجنوب الكبير إلى منطقة جذب اقتصادي واجتماعي مهم، وهذا لن يكون مكسباً للجنوب وحدهُ، بل سيكونُ تحويلاً نوعياً للبوصلة الإنمائية باتجاه الداخل، فيخف الضغط على الشمال الذي تحوّل في الآونة الأخيرة إلى أشبه بمحتشد !! واسألوا أهلنا في الشمال كيف صاروا يفرّون منه إلى حيث الهدوء والدّعة والأمن، لأن المواطن في النهاية هو إنسانٌ يبحث عن السعادة وراحة البال !! ليس من مصلحة الوطن أن يشعر أهل الجنوب أنهم أهلُ النعمة ولكنهم يُحرمونها، وأن البترول الذي يصنع رفاهيةَ الخزينة وقوة الاقتصاد واستقرار البلاد يخرج من تحت أقدامهم ولكنهم يمشون على كراسي متحركة !! ليس من مصلحة الوطن أن يظل الجنوب صحاري خالية، وطرقاً مهترئة ، وبنايات لا تلائم البيئة الصحراوية، ومرافق لا تغني من أبسط حاجات الراحة والترفيه .. الاستثمار الاستثمار الاستثمار... افتحوا باب الاستثمار في الجنوب ليتحول قيظُه إلى خضرةٍ وماء، وتتحول بطالتُه إلى مصانعَ ومؤسسات، ويشعر شبابُه أنه جزءٌ مكين من الدولة، وحينها سيحافظُ عليها بكل طاقته لأنها صارت تمثلُ له روحَه ودمَه وعرضَه . الوطن ليس فندقاً نغادره متى ساءت الخدمةُ فيه !! الوطن هويتُنا، وفلذاتُ أكبادنا، وسكنُنا الذي ليس لنا غيره، لا يمكننا أن نفعل بوطننا سوى أن نحبَّه أكثر ونتمسك به أكثر، ولكننا في نفس الوقت لا نحب أن تُستفزّ وطنيةُ شبابنا بالافتئات على حقوقه، وتجاهل واقعه لأن ذلك وأعداءُ الوطن هو من يشعل مواقد الفتنة، فيستحيل البلدُ صفيحاً ساخناً يُصَبُّ فوقه زيتُ العداء ليتحول الوطنُ إلى مسألة فيها نظر .