حملت تركيبة الطاقم الحكومي الجديد أكثر من مفاجأة، بالنظر إلى أن التوقعات كانت تسير في اتجاه تعيين حكومة سياسية، تحظى فيها الأحزاب الكبرى الموالية بحصة الأسد، غير أن خيارات الرئيس أرادت أن تعطي المرحلة الراهنة حكومة استعجالات، مما جعل البعض يصفها بأنها حكومة تصريف أعمال، إلى حين التعديل الدستوري. الثابت في هذه الحكومة أن الرئيس احتفظ بنفس الوزراء في الوزارات ذات السيادة، مثل الداخلية والعدل والخارجية والدفاع، مما يعني أن الخيارات الكبرى للتوجهات السياسية للرئيس سوف لن تشهد تغييرات، سواء من حيث الممارسات أو الأهداف، في حين سيسعى الرئيس إلى إحداث تفعيل في الوزارات ذات العلاقة المباشرة مع الوطن، مثل التعليم والصحة والنقل والسكن، بهدف تحسين ظروف المعيشة على ضوء الاحتجاجات العديدة التي شهدتها البلاد، وأيضا امتثالا لمطالب الناس. حكومة استعجالات في الواقع أظهرت الحملة الانتخابية انقسام المطالب إلى قسمين: لقد ركزت النخب ورجال الفكر والسياسة على الجانب الإصلاحي في شقه المتعلق بنظام الحكم وحرمة القانون ودور المؤسسات وتحديد الصلاحيات والفصل بين السلطات، في حين ركزت مطالب رجل الشارع عموما على المطالبة بتحسين ظروف الحياة، خاصة ملف السكن والنقل والتعليم والصحة. فهل سيستطيع الوزراء الجدد الذين تم اختيارهم من أوساط أكاديمية لا علاقة لها بحقيقة الشارع مواجهة الإرث الثقيل الذي تركه لهم أسلافهم؟ وهل يملكون خططا فعالة وسريعة لمباشرة هذا الكم من المشاكل؟ طبيعة هذه الحكومة، التي اختلف حول تسميتها، تؤهلها لاختصار دورها في التهدئة والإطفاء ومحاولة إنجاح ما تبقى من مرحلة ما قبل تعديل الدستور الذي يعتبره الكثيرون العامل الذي سيفرض تعديلا حكوميا ذا طابع سياسي وحزبي. تحديات صعبة سؤال طرحه أكثر من طرف: لماذا لم يختر الرئيس حكومة متحزبة، خاصة بعد الخدمات الجليلة التي قدمها حزبا الأفلان والأرندي؟ ولماذا رفضت أحزاب المعارضة المشاركة في هذه الحكومة؟ لعل أهم سبب جعل الرئيس يلجأ إلى هذا الخيار هو محاولة إقناع المواطنين بأن هناك تغييرا في طريقة اختيار الوزراء بعيدا عن نظام الكوطة الحزبية، وهناك أيضا رغبة الرئيس في استدعاء كفاءات تحمل شهادات عليا لإقناع المواطن أيضا بأن مستوى الأداء سيكون عاليا، خاصة بعد سقطات بعض الوزراء السابقين التي تركت آثارا سيئة لدى الرأي العام. إسناد سبع حقائب وزارية لنساء يدخل أيضا ضمن وعود الرئيس بإنصاف المرأة وإعطائها مكانة أكبر داخل مؤسسات الدولة، وأيضا لتحسين صورة الجزائر في المحافل الدولية، خاصة بعد التقارير العديدة التي لا تزال تصنف الجزائر ضمن الدول ''غير المنصفة للمرأة''.هذه بعض التفسيرات التي يمكن أن توصف بها هذه الحكومة الجديدة القديمة، التي تنتظرها مهام جليلة، خاصة قطاع التربية الذي سيشهد قريبا تنظيم امتحانات مصيرية، مثل البكالوريا وشهادة التعليم المتوسط.يمكن القول بأن هذه الحكومة سوف تركز كل جهودها على إنجاح هذه المواعيد التربوية وأيضا الاستعداد لشهر رمضان من حيث وفرة وأسعار المواد الغذائية وتنشيط عمليات توزيع وبناء المساكن والإعداد للدخول الاجتماعي.أما بخصوص أسباب رفض احزاب المعارضة المشاركة في الطاقم الحكومي فهي أسباب تبدو موضوعية وتبين بأن هذه الأخيرة بدأت تنضج سياسيا، أي أن الحصول على المناصب لم يعد هدفا في حد ذاته. كما أن هذه الأحزاب تدرك بأن عمر هذه الحكومة قد لا يطول كثيرا، لذا فهي تفضل أن تحافظ على شكلها بعيدا عن التورط في تسيير قطاعات قد تضعفها بدلا من تقويتها. إن مصير هذه الحكومة سيحدده مدى قدرتها على التخفيف من حدة التوترات الاجتماعية وإنجاح الموسم الدراسي الذي يشكل هاجسا، خاصة البكالوريا وما يثار حولها هذه الأيام من مشاكل بعد تحديد العتبة التي لا يبدو أنها ترضي الجميع، خاصة بعد قضاء موسم دراسي مضطرب جدا. هناك أيضا مشكل غرداية الذي يعرف بعض الهدوء بعد الرئاسيات، على أمل أن يتم حل المشكل نهائيا ومنع تكراره، سواء في غرداية أو في مناطق أخرى، بالإضافة إلى كل الملفات التي ترهق المواطن، والتي وعد الرئيس بحلها نهائيا. التوافق الصعب إن المشاكل الاجتماعية التي ترهق المواطن تشكل ثقلا على كاهل المسؤولين ويستوجب حلها في أقرب الآجال، خاصة وأن الإمكانيات متوفرة، لكن محاولة اختزال مشكل الجزائر في مجرد قضايا الكهرباء والنقل والدراسة والشغل والسكن، بعيدا عن أي رغبة في التغيير العميق والجذري والسليم هو نوع من الهروب إلى الأمام. المطلوب الآن هو فتح صفحة جديدة بين السلطة والمعارضة من خلال حوار معمق، ينتهي بدستور توافقي دائم، يضع حدا لسلسلة التعديلات الدستورية التي لم تحل المشكل السياسي الذي تعانى منه البلاد. لقد قام الرئيس بتعيين أحمد أويحيى مسؤولا على إدارة هذا الحوار، تمهيدا لإعداد دستور توافقي، هذا الأخير شرع في مباشرة مهمته، التي هي تكملة لما توصلت إليه لجنة عبد القادر بن صالح التي صاغت جملة من المقترحات قدمت لرئيس الجمهورية الذي قدمها بدوره للجنة الخبراء لصياغة مسودة تعديل الدستور.المعروف أن تلك اللجنة قد استكملت التعديلات وقدمت مسودة المشروع للرئيس، غير أن اقتراب موعد الرئاسيات جعل ذلك المشروع لا يرى النور، يضاف إلى هذا الحراك السياسي الذي قامت به أحزاب المعارضة والعديد من الشخصيات الوطنية وكل ذلك الجدل الذي حصل قبل الرئاسيات، وكل هذا جعل الرئيس يعمد إلى إشراك مختلف الفعاليات في صياغة مقترحات سوف تتحدد فيما بعد الطريقة التي سوف تعرض بها على الشعب، سواء من خلال الاستفتاء أو من خلال التصويت عليها في البرلمان. إن الكرة الآن في ملعب المعارضة التي تنقسم إلى قسمين: هناك بعض الأحزاب التي هي أقرب إلى الموالاة منها إلى المعارضة، مثل حزب العمال، والتي ستشارك في الحوار بدون أي مشكل، وهناك الأحزاب الأخرى، سواء تلك التي شاركت في الرئاسيات أو التي قاطعت، والتي أعلنت عن رفضها التعاطي مع السلطة في أي ممارسة سياسية، سواء المشاركة في الحكومة أو الحوار حول التعديل الدستوري، لأنها تعتبر السلطة غير جادة في إحداث التغيير الحقيقي وإحترام آليات العمل الديمقراطي القائم على مبدأ التداول على السلطة.هذه المعارضة تجري منذ الانتخابات الرئاسية العديد من الاتصالات وأعلنت عن تشكيل تنسيقية لبعض الأحزاب في انتظار أن تبلور موقفا نهائيا من هذه المشاركة، لكن أغلب الظن فإن هذه القوى لن تزكي مساعي السلطة.هذه كلها رهانات لابد من تطبيقها إذا ما توفرت الإرادة السياسية الحقة، وبالتالي فمن الضروري الوصول إلى حلول توافقية في كافة المجالات وليس حول الدستور فقط.