لقد اقْشَعَرَّ بدني و أنا أشاهد تلك الصور و عن أولئك الفتية و هم يسردون بإيمانٍ كبير من أعماق الأرض كيف ظلوا هناك عشرات الأمتار في الأعماق تحت الأرض في ذلك النفق المظلم بدون أكل غير حبّات تمر كانوا يقتسمونها بينهم بكل عدل بعد أن ودّعوا ثلاثة من رفقائهم الشهداء ، وقد ذكَّروني في ذلك بالقصص الكثيرة للمجاهدين و الشهداء من أرض الجزائر عندما كانوا يقتسمون و هم بالعشرات خبزة واحدة من شعير أو من قمح، حيث يبدأ أبسطهم بالأكل و يكون القائد آخر من يتناول قطعة من الخبز قد يغمسها في الماء وحده، و مع ذلك كان إيمانهم القوي بالله وبتحرير هذا الوطن العامل الذي قَهر قوة عدو كان يمتلك كل آلات القتل و الدمار و الحرب النفسية المدمرة ووسائل أخرى و يسنده الحلف الأطلسي برمته بجيوشه الجرّارَة وبعدّته و عتاده ذكّرني أولئك الفتيةُ الفلسطينيون المقاومون بأن هناك معجزاتٍ قد تحدث عندما يكون الإيمانُ بالانتصار وبعدالة القضية قويا, لقد روَوْا على لسان واحد منهم كيف أنهم و هم تحت الأرض، بل و في عُمْقها و حيث لا هواءَ و لا مُتَنَفَّس غير أرضٍ صلبةٍ لا ماءَ فيها و لا سبيلَ للحياة منها أو النجاة كيف تَفَجَّر الماء فجأة و هم في لحظات الموت الزؤام من تحت أقدامهم ،و كيف بُعثتْ فيهم الحياة من جديد.. أليست هذه معجزة مثل تلك المعجزات التي سردها كثير من المجاهدين أثناء ثورة أول نوفمبر و من بينها تلك التي رواها الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد عندما كانت قوة عسكرية فرنسية كبيرة تحيط بمجموعة المجاهدين لتشرع في الهجوم المباغت عليهم ،و إذا بالسماء فجأة تتلبد بالغيوم و تمطر بغزارة لتُظلّلَهم و تَحُولَ بينهم و بين عدو كان على وشك إبادتهم جميعا. قصةُ أولئك الفتية الفلسطينيين و هم في أعماق الأرض بين الموت و الحياة ذكّرتني بالأهزوجة الفلسطينية التي يقول مطلعها: طالع لك يا عدوي طالع من بين الحارات و الشوارع .. كان أولئك الفتيان و غيرهم بالآلاف يطلعون و يصعدون كل مرة على عدوهم من الأعماق و الأنفاق يرهبونه مثل الأشباح ، فإذا بعدوهم الجبان يقوم بحرب جهنمية طائشة لا يفرق فيها البشر و لا بين الحيوان أو الطير و الشجر يدمر الأنفاق ظنا منه و هو يدكُّ الأرض دكّا أنه وضع حدا نهائيا للمقاومة و قبر رجالاتها في الأعماق و الأنفاق . لكن من يرى أولئك الفتية في تلك الصور يدرك لا محالة أن إرادة الانتصار لدى الشعب الفلسطيني مثلما هو الأمر بالنسبة لكل الشعوب التواقة للحرية و المكافحة من أجل الانتصار لا يمكن أن تقهرها وسائل التسلط و الجبروت مهما استُخْدمت فيها وسائل القوة. لقد ظلت إسرائيل منذ خلق هذا الكيان الغريب في قلب العالم العربي و في فلسطين بالذات في 1948 توحي للرأي العام الدولي عموما و الغربي خصوصا أنها الواحة الوحيدة للديمقراطية في الشرق الأوسط برمته ، و أنها بمثابة الحمل الوديع وسط غابة من الذئاب العربية المتعطشة للدماء الإسرائيلية المسالمة ، لكن هذه الطروحات لم تعد لتنطلي اليوم على هذا العالم بما فيه العالم الغربي نفسه بالرغم من حرب الدعاية التي استُخْدمت فيها وسائل متعددة بشرية ومالية و تكنولوجية و نفسية رهيبة، حيث بات العالم يعرف أن الإرهاب الحقيقي هو هذا الإرهاب المنظم الذي تمارسه إسرائيل و يتغاضى عنه الغرب الخانع لها و الذي بدأ يستفيق الآن من آثار التخدير الذي ظلت عصابات صهيون تستخدمه لابتزاز الغرب على امتداد أكثر من ستين عاما. و لعل في الموقف المشرف الذي وقفته ثلاث زعيمات من سلالة زعيم الحرية في أمريكا اللاتينية سيمون بوليفار، و هن رئيسة البرازيل ديلما فانا روسيف، و رئيسة الشيلي ميشيل باشلي، و رئيبسة الأرجنتين كريستينا إليزابيث فرنانديز، أبلغ الصور على التحول الكبير في اتجاه الرأي العالمي الذي كان مساندا على الدوام للطرح الصهيوني ، و إذا به اليوم لا يندد فقط بالجرائم البشعة للصهاينة ضد الشعب الفلسطيني، بل يقطع العلاقات الديبلوماسية مع هذا الكيان، في حين مازال معظم العرب يهرولون تحت الطاولة للانفتاح على هذا الكيان الإرهابي المغتصب و إقامة العلاقات معه في السر و في العلن بكل الأشكال ثم هل كان بإمكان أي كان أن يتصور قبل الآن أن تقوم شخصية مرموقة مثل الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر أحد دعاة السلام في العالم و راعي اتفاقية كامب ديفيد للسلام بين مصر في عهد الرئيس المصري الأسبق الراحل أنور السادات و رئيس وزراء الكيان الصهيوني الأسبق مناحيم بيغين بالتنديد بما ارتكبته إسرائيل من أعمال فضيعة ضد الفلسطينيين العزل و خاصة الأطفال منهم في حرب الإبادة الأخيرة على غزة و التي أزهقت أرواح أزيد من أربع مائة طفل و حصدت أجساد حوالي ألفي مواطن فلسطيني مدني بريء؟ ثم هل كان بالإمكان أن يتصور أي كان في ظل وجود لوبي صهيوني قوي ترعاه )الأيباك( بكل قوتها و تأثيرها من كل الجوانب بما فيها السياسية و المالية على مصدر القرار في أمريكا أن يقوم رئيس أمريكي مطالبا برفع الحصار عن الشعب الفلسطيني كما فعلها الرئيس أوباما أخيرا و لو باحتشام بعد هذه الحرب الجائرة على غزة لقد قرأتُ بتمعُّن ما تسرب عن تقرير للمخابرات المركزية الامريكية c i a و تصريح نسب لكاتب الدولة الأمريكية الأسبق هنري كيسنجر العرّاب الرئيسي لمفاوضات السلام بين العرب و إسرائيل و هو التصريح الذي حاول كيسنجر نفيه و تكذيبه من أن الدولة العبرية آيلة للزوال لا محالة مع حلول عام 2025 بالنظر إلى مجموعة من المعطيات أبرزها الهجرة اليهودية المعاكسة الآن من داخل إسرائيل بعد شعور قوي من طرف اليهود الذين جاؤوا لفلسطين مغتصبين بأنهم يستحيل عليهم البقاء بعد الآن فوق أرض يتشبث أهلها الأصليون بمقاومتهم للمحتل الدخيل و يرفضون وجود دولة عنصرية عبرية صرفة لم يستطع قادتها منذ بن غوريون و ليفي إشكول و غولدا مائير و إسحاق رابين و شامير و انتهاء بالسفاحين القاتلين شارون و نتنياهو أن يتعايشوا مع الواقع الفلسطيني على الأرض أو يغيروا منه خصوصا بعد أن أقاموا حاجزا من الأحقاد بينهم و بين الشعب الفلسطيني عبر سياسة القتل الجماعي و التدمير الكلي للمباني و المنشآت المختلفة و اغتصاب الأرض. كان بإمكان الإسرائيليين و قد جعلوا من اتفاقيات أوسلو مجرد خدعة و أكذوبة صهيونية لتأبيد احتلالهم لفلسطين و فرض سياسة الأمر الواقع و اقتطاع المزيد من الأراضي الفلسطينية في ظل سياسة بناء المستوطنات أن يُظْهروا نيتهم للفلسطينيين في التعايش السلمي معهم في إطار حل الدولتين بعد اتفاقيات أوسلو ، و لكنهم تعاموا عن هذا الواقع بعد أن خدعتهم قوتهم حيث لم يدركوا أن عامل القوة العسكرية لا يمكنه أن يقهر الإرادة الصلبة للشعوب في الانتصار والتحرر مهما طال الزمن و مهما كانت قوة الخصم . و يبدو أن الإسرائيليين لم يقرؤوا التاريخ بتمعن ، حيث رهنوا المستقبل بنظريات استشرافية تقوم على القوة و الأمن و الردع و لا ترتهن للسلم أو لإرادة الشعوب في التحرر و الانعتاق. أذكرُ ذات يوم من بداية ثمانينيات القرن الماضي أنني كنت مع أحد القادة الفلسطينيين المرموقين نتحاور حول مستقبل القضية الفلسطينية و دور المقاومة في التحرير ، و كان هذا القائد رغم إيمانه الشديد بالمقاومة المسلحة يبدي توجسه من المحيط العربي و من تأثيراته على القرار الفلسطيني المستقل، في وقت كانت فيه الجزائر تكاد تكون البلد العربي الذي يدعم بلا شروط القرار الفلسطيني المستقل. و فجأة وجدتُ الرجل كمن يختبرني بعد انفراد السادات بالسلام مع إسرائيل حيث راح يتساءل إن كان الكفاح المسلح أو هكذا خٌيّل لي سيؤدي إلى الانتصار؟. وعندها رحتُ أقول له :هل كان بإمكان أحد أن يتصور انتصار الشعب الجزائري بقيادة جبهة و جيش التحرير الوطني بعد فشل سلسلة طويلة من المقاومات و استعمار دام 132 سنة ؟ و عندها فقط وجدته كمن يستدرك و يستعيد الأمل و راح يقول لي و هو يضرب على الطاولة بشدة: سننتصر لا محالة لأن المستقبل لنا مهما كانت قوة الصهاينة ومهما كان تَخَاذُلُ العرب.. و لهذا فإنني أعتقد أن الانتصار الفلسطيني سيتحقق ،حيث بينت حرب غزة الأخيرة العزيمة الفولاذية للمقاومين الفلسطينيين الأشاوس في إلحاق الهزيمة بعدوهم و الانتصار عليه مهما طال أمد العدوان و مهما كانت قوة العدو، حيث أن صواريخ المقاومة رغم تواضع قوتها التدميرية جعلت الإسرائيليين بطائراتهم و دباباتهم و مدافعهم التي زعموا بأنها بالغة الدقة مرعوبين من صواريخ المقاومة و من عزيمة أولئك الفتية الذين كانوا يخرجون من الأنفاق في عمليات بطولية نوعية ضد الإسرائيليين الذين لم يكن باستطاعتهم رغم الجواسيس و الآلات التكنولوجية الحربية البالغة الدقة تحديد مواقع المقاومة الفلسطينية التي كان رجالها و سيبقون يَطْلَعُون على عدوهم من أي عمق في الأرض و من أي حارة أو شارع، و كأنهم يرددون مطلع تلك الأهازيج الشعبية الفلسطينية: طالع لك ياعدوي طالع . [email protected]