في يوم 27 أكتوبر سنة 2001، أعلن (ستيف هامب)، مدير متحف (هنري فورد)، في مدينة (ديربورن) في (مشيجان) الأمريكية عن شراء حافلة ركاب قديمة ومهترئة من موديل الأربعينات بمبلغ 492 ألف دولار أمريكي. ولم يكن مدير المتحف ليدفع هذا الثمن المرتفع لولا أن لهذه الحافلة قصة رمزية، ذات صلة بتاريخ الولاياتالمتحدةالأمريكية الحديث، إذ أنه قبل ست وأربعين سنة من عام 2001، وقعت على متن تلك الحافلة قصة كان يمكن أن تمر مرورا عرضيا في مجل ما يقع من حوادث يومية، لكن ما ترتب عنها من تداعيات جعلها معلما مهما في التاريخ الأمريكي، والأمم الحيّة تحرص على التعلم من تاريخها. ذات يوم بارد هو الخامس من شهر ديسمبر من عام 1955، كانت الخياطة السوداء البشرة (روزا باركس Rosa Parks ) في طريقها إلى منزلها بعد أن أنهت يوماً حافلاً بالعمل؛ وكانت قوانين المرور في مدينة (مونتغمري) من مقاطعة (ألاباما) الجنوبية في الولاياتالمتحدةالأمريكية تنص أن يدفع السود ثمن التذكرة من الباب الأمامي، ولكنهم يصعدون الحافلة من الخلف، كما كان يحظر عليهم أن يجلسوا في المقاعد المجاورة لمرور الركاب. وكذلك كان القانون يقضي بأن يترك الأسود مكان جلوسه للأبيض في حال الازدحام، غير أنه في ذلك اليوم البارد من ديسمبر صعد رجل أبيض إلى الحافلة ووقف أمام (روزا باركس) وهي السوداء، ينتظر أن تقوم وتترك مقعدها له، وكانت السيدة (باركس) قد قررت أن تفعل شيئاً جديداً في كسر القانون العنصري؛ فرفضت بكل بساطة التخلي عن مقعدها للأبيض، وأمام إصرارها تدخلت الشرطة فنزعتها من مقعدها بالقوة وأجبرتها على دفع غرامة، وأوقفت في الحجز لمخالفتها قانون الولاية. لقد كان هذا الحادث في ذلك اليوم بمثابة الشرارة التي أوقدت ناراً هائلة في هشيم جاف، وأيقظ مشاعر محتقنة ضد الظلم والتمييز العنصري، بدأت بمقاومة سلمية مدنية، قاطع السود فيها حافلات النقل لمدة سنة كاملة، ورفعت القضية إلى أعلى هيئة دستورية في البلد، واستمرت المحاكمة مدة 381 يوماً؛ وجاء الحكم في النهاية ينتصر ل (روزا باركس) في محنتها، وانكسر القانون العنصري إلى غير رجعة. أستاذ الفيزياء بجامعة الوادي، الدكتور جمال ضو في شريط مصور بثه على الشابكة (الانترنت)، وصف ما حدث معه بعد اقدام ربان الطائرة على إنزاله منها، بأنه يشبه ما وقع لروزا بارك، إذ حسبه لا يوجد تفسير منطقي لهذا الفعل، وكل جرمه أن طلب من المضيفة أن تخاطبه بالعربية، وأنه ليس جاهلاً باللغات الأجنبية لكنه يصدر عن موقف حضاري هو (المواطنة). وأعتقد أن الحادث كان يمكن أن يمر مرورًا عرضيًا، أو في أسوأ الأحوال أن يأخذ بعدا قانونيًا، بأن تحرر شكوى ضد المعني إذا كان في سلوكه ما يمثل فعلاً (تهديدًا) على أمن الركاب، لكن الذي حدث فيما قرأناه في الصحافة، يذهب بتفسير سلوك ربان الطائرة في كل اتجاه غير الاتجاه السليم، وآية ذلك أن المتضرر لم يجد من تعليل لهذا الموقف إلا بما يشبه ما حدث لروزا باركس، وأنه شعر على حد قوله أنه (أنديجان) مسلوب المواطنة. الأصل في الرحلات الجوية أنها (ضيافة) مدفوعة الثمن، وأن (المضيفة hôtesse) تسهر على رعاية ضيوفها طيلة الرحلة، وكما يقول المثل الشعبي (الضيف ضيف، ولو مكث شتاء وصيف) تعبيرا عن تحمل ما قد يند عنه من تصرفات ليست بالضرورة مما يروق المُضيف، فكيف إذا كان الضيف في حدود الأدب والأعراف؟