إن ما حدث بين الجزائر ومصر بسبب كرة القدم ليس أزمة بين نظامين ، بل امتد ليصبح أزمة بين شعبين، وهي ، بكل أسف ، بحاجة لعشرات السنين لكي ترمم وتلملم، لكن التجربة منذ انقلاب هواري بومدين عام 1965 ورفض مصر فكرة تدوير الأمانة العامة للجامعة العربية في قمة الجزائر في 2005 وغيرها، تشير إلى العلاقات الرسمية بين الدولتين لن تتأثر بشكل بالغ. يرى كثير من الكتاب أنه بعد مرور ثلاثة أسابيع عن مباراة القاهرة بين الفريق الجزائري والمصري، ذهبت السكرة وجاءت الفكرة .. ولو متأخرة. والفكرة هذه جاءت من قبل من يعرفون باسم " العقلاء أو الحكماء " الذين قيل بأنه كان محجورا عليهم في القاهرة أو في الجزائر. وعندما جاءت الفكرة .. قرأنا لعديد من الكتاب ينسبون ما حدث من تأزم في العلاقات بين البلدين، إلى وسائل الإعلام من البلدين. والحقيقة أن هذا فيه تحامل كبير وغير صحيح على الإطلاق. عفوا .. الجزائر لا تتحمل أي مسؤولية أولا إن وسائل الإعلام المصرية تتحمل المسؤولية الأولى والأخيرة عن كل ما حدث خاصة الفضائيات المصرية الخاصة والتابعة للدولة. وفي الجزائر التي لم تتطرق التلفزة الرسمية أو الإذاعة إلى الموضوع إطلاقا لا تتحمل شيئا من المسؤولية بكل تأكيد، المسؤولية الوحيدة التي يمكن أن تتحملها هي عدم التصدي للدفاع عن التعدي والإستهتار والإستخفاف بمقدسات الشعب الجزائري، وهي التي لم ترحم شخصيات جزائرية تاريخية لمجرد خلاف بينها وبين النظام الحكام في كيفية معالجة الأزمة الأمنية والسياسية خلال سنوات الإرهاب . أما الصحافة الجزائرية الخاصة والحكومية، فهي تتحمل مسؤولية رد الفعل الذي قامت به تجاه الإعلام المصري العام والخاص المسموع والمرئي والمكتوب. وجاء رد فعلها طبيعي على درجة الشحن وحدة التعدي للفضائيات المصرية، لكن هذا لا يعني أنها لا تتحمل المسؤولية الأخلاقية على الأقل بخصوص بعض " المفردات " التي كوتبت هنا وهنا كرد فعل على " الكلمات والمفردات البذيئة " التي جاءت من مصر، كتلك التي تصف مليون ونصف مليون شهيد بعبارة " مليون ونصف مليون لقيط " أو بلطجي " .. وثانيا لا يجب تحميل وسائل الإعلام في مصر وحدها المسؤولية، لتورط مسؤولين مصريين في الحملة الدنيئة ضد الجزائر، مسؤولين معروفين بالإسم والمنصب، منهم وزير الرياضة رئيس المجلس القومي للرياضة " في مصر، وسمير زاهر رئيس الإتحادية المصرية لكرة القدم وأبناء الرئيس مبارك ، وفنانين وممثلين مشهورين .. وهذا كله لا يوجد ما يقابله في الجزائر. وبالتالي فإن التسوية في " تحميل الطرفين مسؤولية ما حدث " هو ظلم آخر للجزائر من قبل العقلاء والحكماء، سواء في مصر أو في الجزائر. أما الفكرة الأخرى التي يجب مناقشتها، بعد زوال " السكرة " فتتعلق بتلك التصريحات القادمة من القاهرة تحديدا ، وهي عبارة عن إشارات للتهدئة، والقول بأن ما حدث هو عبارة عن سحابة صيف، وسوف تنتهي وتزول وتنقشع بعد حين وتعود المياه إلى سابق عهدها. والحقيقة أنم هذا الكلام غير صحيح .. لأن ما حدث ليس أزمة بين نظامين ، بل امتد ليصبح أزمة بين شعبين. في تاريخ العلاقات بين الجزائر ومصر، وقع التشنج عدة مرات في العلاقات بين النظامين ، لكن الأمور عادت بسرعة إلى مجاريها، ففي عام 1965 لم ترض القاهرة عن الإنقلاب الحاصل في الجزائر باعتبار الرئيس أحمد بن بلة المنقلب عليه يعد صديقا لجمال عبد الناصر .. لكن الأمور عادت بسرعة إلى مجراها الطبيعي بدون أن يكون للموقف المصري تأثير في الشارع الجزائري، وقد اكتشفت مصر بسرعة الموقف العروبي لبومدين عام 1967 و1973 . وفي عام 2000 قام الرئيس بوتفليقة بزيارة للسودان بعد أقل من عام من وصوله إلى الحكم، وكان هدفها ترميم العلاقات بين الجزائروالخرطوم، وإعادة العلاقات الدبلوماسية التي كانت منقطعة منذ التسعينيات بسبب اتهام الجزائر للخرطوم بدعم الجماعات الإسلامية المسلحة ، وحسب بعض الكتابات الإعلامية حينها فإن بوتفليقة لم يكن يمانع من لعب دور الوساطة بين الخرطوم وزعيم الجنوب حينها الراحل جون قرنق الذي لكن أصوات في القاهرة عبرت عن عدم رضاها للفكرة، على اعتبار أن الرئيس بوتفليقة يريد أن يلعب السياسة في ميدان غير ميدانه، على اعتبار أن المصريين يعتبرون السودان مجالا حيويا لهم وحدهم ويتحكمون في مصيره السياسي والإقتصادي .. بحجة " وحدة النيل " .. لكن العلاقات لم تتأثر بين البلدين. ولم تلعب الجزائر أي دور في السودان، ما عدا وجودها ضمن المجموعة الإفريقية في ملف دارفور. بينما كان يجب أن تلعب مصر أولا والجزائر ثانيا دورا هاما في ملف دارفور. وفي عام 2005 ، كانت الجزائر على موعد مع عقد القمة العربية في الجزائر العاصمة، وأطلقت عليها قمة الإصلاح، ومن بين بنود الإصلاح المقترحة ، فكرة تدوير أمانة الجامعة بين مختلف البلدان العربية، بينما تلح مصر على أن يكون الأمين العام مصريا. وأطلق وزير الخارجية الجزائري حينها السيد عبد العزيز بلخادم تصريحات بالغة الدلالة عندما : " نرفض أن تكون الجامعة العربية ملحقة بوزارة الخارجية المصرية " .. وكادت تلك التصريحات وتلك الأفكار الإصلاحية أن تعصف بالقمة العربية، وكاد الرئيس حسني مبارك أن يغيب عن القمة بسببها لولا تراجع الجزائر في اللحظات الأخيرة، وتدخل سفير الجزائر في القاهرة مع السلطات المصرية العليا للملمة الوضع. وعادت العلاقات إلى طبيعتها بين النظامين. وأحيانا يحدث الخلاف بين النظامين المصري والجزائري بخصوص قضايا دولية حساسة، مثل تأييد الجزائر لإيران في حق امتلاك المفاعل النووي لأغراض سلمية، بينما ترفضه مصر وتعتبر مقدمة للأغراض العسكرية، وكذلك تأييد الجزائر للمقاومة اللبنانية والمقاومة الفلسطينية بينما ترى ذلك مصر تهديدا لأمنها القومي. وتجلى ذلك بوضوح في قمة غزة التي عقدت بالدوحة عام 2009 شاركت فيها الجزائر ودعي إليها الرئيس الإيراني أحمدي نجاد ولم تشارك فيها القاهرة. لكن ذلك لم يفسد العلاقات بين النظامين. أما الأزمة الراهنة بين مصر والجزائر بسبب كرة القدم، فهي بدون شك لن تعكر صفو العلاقات بين النظامين، رغم أن مصر ترغب في تعكيرها ، من خلال إصرار أطراف في مصر منهم أبناء مبارك على طرد السفير الجزائري من القاهرة، حتى تمنح الفرصة للوساطة الدولية تمكن المصريين من المساومة والبزنسة بالموضوع مثلما تفعل في ملف الصلح بين فتح وحماس، إلى درجة اتهمت فيها القاهرة بتزوير " وثيقة الصلح "، لكن النظام الجزائري لم ينزل إلى المستوى المصري، وربما يكون قد تفطن للعبة المصرية فأراد أن يفوت عليها الفرصة. وليس مستبعدا أن تعود العلاقات إلى طبيعتها العادية بين الجزائر ومصر على الصعيد الرسمي. يكفي إبرام شراكة تجارية بين البلدين أو إنشاء شركة مختلطة لممارسة التجارة التي تخضع لمنطق الربح والخسارة، كتلك الشراكات التي تبرم مع أي دولة أو شركة في أي بلد في العالم ، سواء أكان صاحب الشركة عربيا أو إفرنجيا .. وسواء أكان صاحبها مسيحيا أو يهوديا أو بوذيا أو مسلما .. لكن العلاقات بين الشعبين تأثرت كثيرا مؤخرا بسبب التحامل الإعلامي على الجزائر شعبيا ورموزا وتاريخا ، وبسب ترويج مغالطات وأكاذيب في حق الأمة الجزائرية، ولم يتوقف إلى غاية كتابة هذه الأسطر. لذلك لا يمكن اعتبار التجني الإعلامي المصري سحابة صيف .. إنها سحابة ديسمبر الممطرة .. إن الجرح عميق للغاية في قلب الجزائريين ، والشرخ وسّعته الفضائيات المصرية بين الشعبين، ولا تستطيع الشراكة التي تم توقيعها بين شركة سوناطراك الجزائرية، وشركتين مصريتين للتنقيب عن البترول في الجزائر ومصر وفي بلدان أخرى يوم 6 ديسمبر 2009 بقيمة 15 مليار دولار حسب قناة الجزيرة الفضائية أن تجعل الشعب الجزائري ، ينسى بسرعة، رغم أنه شعب ينسى بشكل سريع ولا يختزن الأحقاد والكراهية لأحد. لكن ما تعرضنا له من قبل " المتطرفين المصريين " بصمت رسمي من قبل الحكومة المصرية، وربما بتأييد رسمي مصري، وبصمت العقلاء بتهمة الحجر على أرائهم .. بحاجة إلى عشرات السنين لكي ينسى ويلملم.. وهذا أمر طبيعي لأنه ظلم ذوي القربى، ظلم من يسمون أنفسهم " الأخ الأكبر " .. إننا بحاجة لمصارحة ومكاشفة ، وكشف الحقيقة مهما كانت مرة، وتقديم الإعتذارات من الطرف الذي يجب أن يقدمها .. أما القفز على الحقائق ، واللجوء إلى المساواة في " الجريمة " بين الجزائريين والفضائيات المصرية فهذا لا يليق ، لأنه لا يحل المشكل ، وقد يعقده أكثر.