[email protected] خلال الحملة الانتخابية لتشريعيات ومحليات1997 التي خضتها إلى جانب العديد من المناضلين الشرفاء في حزب جبهة التحرير الوطني بولاية الأغواط خاطبتُ المواطنين والمناضلين في أكثر من مهرجان شعبي وفي أكثر من مكان بتلك الولاية التي ظلت جبهوية رغم كل المحاولات التي استهدفتها قصد جرها للتخندق مع أحزاب أخرى، وقلت حينها بأن تلك الانتخابات قد تكون آخر انتخابات نخوضها دون أن يتدخل المال لشراء الذمم والضمائر، ولكنني أبديت تخوفي وأنا أستقرئ تجارب العديد ممن سبقونا في التعددية السياسية من أن تكون انتخابات 2002 وما بعدها مرحلة جديدة لإفساد السياسة بعد أن يدخل المال كعنصر محرك بل و ملوث في العمل السياسي و في شراء الأصوات وتغيير التلوينات السياسية من هذا الاتجاه إلى اتجاه آخر بدعم من لوبيات المال وأصحاب النفوذ خصوصا. وقد استغرب مني عدد من المناضلين في ذلك الوقت مثل ذلك الكلام، وفهمه البعض الآخر على أنه مجرد تنجيم في علم السياسة لاعلاقة له بالواقع السياسي للجزائر. ولكن عندما جرت انتخابات 2002 كنت مثلي مثل عشرات المناضلين الشرفاء خارج اللعبة ربما بسبب المال وربما لأسباب أخرى لا أعتقد أن وقتها قد حان الآن حتى لا ننكأ الجراح بالعودة إلى الماضي. في انتخابات1997 كان بعض المناضلين الجبهويين يُدفعون دفعا للترشح، إما خوفا من النتيجة مسبقا حيث كانت جل الأحزاب تركز حملاتها الانتخابية تهجما على النظام وعلى حزب جبهة التحرير الوطني التي كانت في شبه طلاق مع النظام آنذاك وحتى مع مختلف مؤسسات الدولة التي راحت تساند الحزب الناشئ الجديد حزب الأرندي، و كان هناك مناضلون آخرون لا يترشحون لأسباب تتعلق بالانضباط وعدم تهافتهم على الانتخاب. فقد كان الانضباط واحدا من العناصر الأساسية التي تتحكم في نضال المناضلين، فعندما ترشح القواعد الحزبية من قسمة و محافظة هذا المناضل فإن بقية المناضلين لا يُبدون أي تذمر تجاه ذلك ،بل إنهم جميعا يسارعون ومهما كانت نظرتهم للمترشح أو موقفهم منه إلى دعمه ومساندة حملة الحزب لأن قناعاتهم أنهم يدعمون الحزب لا الشخص المرشح مهما كان مستواه متدنيا، وأما إذا كان هذا المناضل قد رشحته القيادة المركزية للحزب فإن الانضباط يكون أكثر تطبيقا في الميدان، في حين كانت المسائل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية تأخذ نقاشات حادة تصل إلى درجة الاختلاف والرفض في صفوف المناضلين حتى يبدو للمناضلين الجدد أن حزب جبهة التحرير الوطني يضم في صفوفه تشكيلات سياسية كثيرة، وقد كانت هذه واحدة من عناصر قوة حزب الأفلان. لم يكن المال وقتها قد تسرب لحزب جبهة التحرير الوطني لا فساد النضال، وكانت الأخلاق والانضباط الوجه الأبرز في نضال المناضلين مركزيا وقاعديا، وكان لمصطلح الشكارة مفاهيم أخرى تعود إلى الثورة المسلحة غير الشكارة المالية المفسدة للأخلاق السياسية التي ظهرت بشكل كبير منذ انتخابات 2002 التشريعية والمحلية على حد سواء، فقد كانت الانتخابات التشريعية توصل صاحبها للمجلس الشعبي الوطني مباشرة، أما الانتخابات المحلية فلم تعد طريقا للمجالس المحلية الولائية والبلدية فقط ولكنها أصبحت كذلك وسيلة للوصول إلى كرسي مجلس الأمة. وفي تلك الفترة التي سبقت استحقاقات1997 لم يكن بإمكان الانتهازيين المجاهرة بما يختلج في صدورهم، ولم يكن هؤلاء المتجولون قد ظهروا في الساحة السياسة بعد بشكل علني مكشوف، فقد كانوا ينتظرون الفرصة المواتية تماما مثلهم مثل أصحاب المال الذين كانوا يتحينون الفرصة للتموقع السياسي في هذا الحزب أو ذاك قصد التمكن لاحقا من الالتحاق بالبرلمان بغرفتيه، ولم يكن الهدف من ذلك هو النضال بحد ذاته، ثم إن مرتب عضو البرلمان لم يكن يعنيهم بالدرجة الأولى، فكثير منهم بإمكانهم أن يدفعوا أكثر من عشر مرتبات أجر عضو البرلمان نظير حفلات العشاء التي يقيمها بعضهم تقريبا كل يوم بقدر ما يكمن الأمر في الحصول على حصانة برلمانية تمكنهم من حماية أموالهم ومؤسساتهم ومن ثمة كسب مواقع جديدة في السياسة و الاقتصاد و الاتصال. والغالب أن عملية تشجيع الثقافة كانت هي العنصر المغيب الوحيد في سعي هؤلاء للتموقع السياسي، فإذا كان بعض أصحاب المال في العالم يستخدمون مختلف الوسائل وخصوصا المال والاتصال سعيا للوصول إلى السلطة فإن بعضهم كما هو الحال مع بعض أثرياء الخليج لم يغيبوا الثقافة من توجهاتهم فأقاموا جوائز معتبرة تدفع كل عام لفائدة الإبداع والفكر . أما أثرياؤنا وخاصة الجدد منهم وكثير منهم فاقدون للأفكار ولا تربطهم أية صلة بالفكر والثقافة، بل وتحيط بهم شلة من الفاسدين أخلاقيا أو المتعطشين للمال من أجل المال فإنهم لم يسمعوا على الإطلاق بشئ اسمه الثقافة والفن والإبداع، وحتى إذا ما دعموا في عمليات سبونسور نشاطا من هذا القبيل فإنه لن يتجاوز إطار تشجيع فن هابط لا رائحة فيه للثقافة والفكر والفن والإبداع. أنا لا أنفي أن المال ضروري لممارسة السياسة وإلا فإنني أكون بعيدا عن الواقع المعاش في بلادنا و في العالم حيث يشكل المال عصب الحياة السياسية. فبدون المال لا يمكن أن ننظم حملة انتخابية بدء من اللافتات والملصقات والعمل الاتصالي عبر الوسائل و الوسائط الإعلامية والاتصالية المختلفة من إذاعة و تلفزة وانترنيت وإشهار في الصحافة المكتوبة و لم لا إطلاق صحيفة وقت الحملة الانتخابية وانتهاء بتمويل الحملة في مختلف الميادين بما في ذلك كراء القاعات التي تخصص للتجمعات وعمليات نقل الأنصار والقائمين على سير الحملة عبر مختلف الوسائل بما فيها النقل الجوي وكذا مختلف أشكال الاتصال والإعلام التي تؤطر سير كل حملة انتخابية وخاصة إذا كانت ذات طابع رئاسي تتطلب إمكانيات كبرى. لكن هذا المال الذي نتحدث عنه و الذي أفسد السياسة هو استخدام المال في شراء أصوات الناخبين المحليين خصوصا. لقد بات هذا الخطر يتهدد الحياة السياسية ككل والمؤسسات المنتخبة والجماعات المحلية لما بات يفرزه من تراكمات راهنة ومستقبلية مخلة بالأخلاق السياسية وبما يسئ إلى الممارسة السياسية ككل. فإذا كان هذا النوع من المال يفسد روح الانضباط داخل الأحزاب ويجعل البعض يتمرد على حزبه و ينشق عليه كما يؤدي إلى تفشي ظاهرة الرشوة السياسية فإنه يجعل مختلف الأحزاب مستقبلا عاجزة على التحكم في مناضليها بعد أن يبيعوا أصواتهم لمن يدفع أكثر سواء من هذه التشكيلة أو تلك التي يكون قد تسرب إليها أصحاب المال و الباحثون عن المنصب بأي ثمن للتمكن من الوصول إلى البرلمان وما يشكله ذلك من انعكاسات مستقبلية شاملة على السياسة وعلى التشريع،ثم إن كل هذا وغيره قد يؤدي إلى بروز مظاهر سلبية أبرزها : تفشي الرداءة التي قد تفرزها عملية شراء الذمم في مختلف مؤسسات الدولة بما فيها المؤسسات الدستورية. وقد تعجز هذه المؤسسات مستقبلا على أن تجد بعض الشخصيات المؤهلة علميا ومن حيث التجربة لتسيير بعض اللجان في بعض هذه المؤسسات. ضعف أداء المؤسسات نتيجة وصول عينات قد تستخدم كل الوسائل للتموقع وكسب الأصوات ومن ثمة الوصول إلى مراكز المسؤولية داخل بعض المؤسسات الدستورية والسعي لتوجيه النصوص القانونية وفق النظرة التي تخدم مصالحها الذاتية على حساب المصالح الوطنية . كما أن هذه المظاهر السلبية داخل هذا المؤسسات الدستورية خصوصا يمكن أن تحدث الأثر السيئ داخل المجتمع وتؤثر على نفسية الناخب. ويمكن أن نرصد ذلك في العناصر التالية: 1 فقدان الناخب للثقة في المنتخب و في المؤسسات ككل لأنه سيشعر أن هؤلاء الناخبين الذين أعطى لهم ثقته باعوا أصواتهم و أصوات الناخب في نفس الوقت لأحزاب و حتى لأشخاص آخرين جاء بهم المال أو مكنتهم مكن التموقع بعض اللوبيات ذات الطرح الذي يتنافى مع ما عبرت عنه الأصوات الشعبية التي منحت لأولئك المنتخبين المحليين. 2 شعور الناخب أن المؤسسات ستصبح عاجزة على أداء دورها المنوط بها بعد أن تسربت إليها هذه النماذج البشرية التي لم تحصل على الإجماع الشعبي ولكنها تجد نفسها مع ذلك بفعل المال وشراء الذمم في مواقع متقدمة بهذه المجالس. 3 ارتفاع ظاهرة الامتناع ونقص المشاركة الشعبية في الانتخاب بعد شعور الناخب بتحريف أصواته لجهات وأشخاص لم يمنحهم أصواته وثقته ووجدهم في النهاية يمثلون إرادة تخالف عن إرادته الحقيقية المعبر عنها في الانتخابات. ولذلك فقد بات من الضروري تصدي مختلف الأحزاب الفاعلة في الساحة الوطنية إلى هذه الظاهرة المغيبة للأخلاق السياسية المأمولة حتى لا تكون لها انعكاساتها السلبية على الحياة السياسية مستقبلا، وحتى لا يتم تغييب العمل السياسي القائم على إبراز الكفاءة والتجربة والمدعوم بالأخلاق السياسية المطلوبة. فالأحزاب مدعوة لمعالجة هذه الظاهرة بالعمل على أخلقة السياسة و على الاختيار الدقيق للرجال و النساء في مختلف الاستحقاقات وضبط المعايير والشروط الموضوعية التي تمكن أصحاب الكفاءات و الخبرة من الوصول إلى هذه المؤسسات وإلا فإن مختلف المؤسسات الدستورية ستجد نفسها مستقبلا هيكلا بلا روح تتحكم فيها الرداءة و يسيرها المال وفق مصالح الأشخاص واللوبيات التي تسير في فلك أصحاب المال والنفوذ. على مستوى المؤسسات التشريعية يجب وضع قانون صارم إزاء هذه الظاهرة الآخذة في التفشي والانتشار والتنبيه لمخاطرها ودق ناقوس الخطر من أن يصبح المال المفسد للأخلاق السياسية وسيلة لجلب الأصوات المرجحة للفوز والوصول إلى بعض المؤسسات الدستورية الهامة. كما يتعين على مؤسسات الدولة الأخرى بما فيها مؤسسات الرقابة ألا تكتفي بملاحظة الظاهرة بل يجب أن تعمل على التمكين للعدالة من أن تقوم بدورها الكامل لمحاكمة أصحاب المال العاملين على إفساد الأخلاق السياسية وأن تزودها بالمعلومات والملفات الكافية التي تجعل القضاء الجزائري يمسك بكل الخيوط والمعلومات الضرورية وحتى لا يظلم البعض عبر الاتهامات التي تكثر في هذا الجانب بالذات حيث يسعى البعض بدافع الغيرة والانتقاد إلى محاولة تسويد صرة البعض تحت كل المبررات. ويمكن لوسائل الإعلام والاتصال مكتوبة ومرئية ومسموعة أن تساهم هي الأخرى بدور فعال في محاربة هذه الظاهرة بطرقها الخاصة بها. ويجب أن ننطلق جميعا من مسلمات أساسية أننا جميعا طبقة سياسية ومؤسسات فاعلة في الدولة إعلاما واتصالا ومجتمعا حريصون على أخلقة العمل السياسي ولكي نجعل من المال وسيلة لإثراء الحياة السياسية والبحث عن الحلول التي تمكن العمل السياسي من الارتقاء لخدمة الديمقراطية وخدمة مصلحة المواطن لا وسيلة لإفساد السياسة وإعلاء شأن من لا شأن له.