كانت أول زياراتي لسوريا في سبتمبر 1973 عشية حرب أكتوبر، قادما من بيروت وذاهبا إلى القاهرة حيث أجريت مساء السادس من أكتوبر أول مكالمة مع الرئيس الراحل هواري بومدين حول انطلاق المعارك، وكانت زيارتي الثانية مرافقا للرئيس في زيارته نفس العام للعاصمة السورية، ثم سافرت إليها مرة ثالثة في منتصف السبعينيات لافتتاح الخط الجوي بين الجزائرودمشق، وفي سبتمبر 1978 حضرت قمة جبهة الصمود والتصدي التي أذهل فيها الرئيس الراحل الحضور بتحليله عن التوازن الاستراتيجي مع العدو الصهيوني، وكانت آخر زياراتي منذ ثلاث سنوات مشاركا في الحوار الذي نظمه وزير الثقافة السوري رياض نعسان أغا عن العلاقات الفكرية بين المشرق العربي والمغرب العربي. وجاءت هذه الزيارة في شهر أبريل الحالي للمساهمة في عيد الجلاء السادس والأربعين والذي يسجل الخروج النهائي للاستعمار الفرنسي من الأرض السورية. وعندما فاجأني الدكتور رياض نعسان أغا وزير الثقافة بمكالمته الهاتفية يدعوني فيها إلى سوريا للمشاركة في المناسبة دفعني حماسي لزيارة القطر الشقيق إلى الموافقة بسرعة قياسية، لكنني بمجرد أن وضعت سماعة الهاتف أحسست بأنني تسرعت في قبول الدعوة الكريمة. والواقع هو أنني شعرت بالخوف، فبرغم أنني أعرف المقولة التي ترى بأن لكل إنسان موطنان، الأول هو وطنه الذي ينتمي له ويعيش فيه والثاني هو سوريا، فقد تذكرت أنني سأكون في واحد من أول البلدان التي عرفت أعرق الحضارات، وأعطت قارة أوربا اسمها الحالي، ومنحت البشرية، منذ مملكة أوغاريت، واحدة من أقدم الأبجديات، وسأكون في بلد جسّد الصمود ومارس التصدي وواجه العدوان، وبالإضافة إلى كل هذا، وهو ما كان يخيفني أكثر من غيره، بلد يعيش اللغة العربية ويتنفس بلاغتها ويتلمس روائعها ويجعل جملها أغنية عذبة تشدو بها الألسن وتتمتع بها الآذان وتسعد بها النفوس )ولا أقصد هنا أي غمز أو لمز أو تعريض(). ولعلي أضيف إلى مبررات الخوف معرفتي بأنه سيكون في طليعة الحضور مثقف عربي عرفته في الجزائر فارسا من فرسان لغة الضاد، لا تفوته واردة ولا شاردة، هو صديقي الدكتور رياض نعسان أغا، الذي سحرتنا بلاغته يوم حظينا به رئيسا للوفد السوري في فعاليات الجزائر عاصمة للثقافة العربية، التي لم تحقق ما كنت أريده لها لأسباب لا يجهلها الكثيرون. ووجدت نفسي في منطقة الشيخ بدر التابعة لمحافظة طرطوس وأمامي وفي مقدمة آلاف حضروا، مشكورين، محاضرتي، الدكتور رياض والمحافظ (الوالي) وعدد من كبار المسؤولين في الحزب وفي المحافظة، وكان مضمون كلمتي التي استغرقت نحو ثلاثة أرباع الساعة تأكيد رفقة السلاح والتضامن في السراء والضراء بين الجزائر وسوريا، ودعم جسر التلاقي بين الجزائر، عاصمة بلقين بن زيري وهازمة شارل الخامس في القرن السادس عشر، وبين دمشق، بوابة التاريخ وأعرق مدن العالم وحضن صلاح الدين الأيوبي ومحي الدين بن عربي وما تبقى من آثار الأمير عبد القادر بعد عودته إلى الجزائر في منتصف الستينيات وهازمة الاستعمار الفرنسي برغم ما أصابها من تلف وحرق، كما جاء في قصيدة أحمد شوقي عن دمشق. ووجدت نفسي أتوجه إلى روح صلاح الدين، التي تصورت أنها كانت تطوف بنا لأقول للقائد الكبير: سيدي، لك تحية المحبة والتقدير، واعتذر لك عن حماقة الجنرال الفرنسي غورو، الذي تطاول على رفاتك وهو يقول لقد عدنا يا صلاح الدين، ولم يدرك أن عودته كانت سحابة صيف كادت تكون سرابا بقيعة يحسبه الظمآن ماء. تحية لك سيدي صلاح الدين، وكم نحن اليوم في حاجة إليك، وبيت المقدس تعاني ما يقترب من الاحتضار، وكلُ ما بارك الله حوله يعبث به صبية التاريخ وغلمان الأحداث، ومنهم بعض أبنائنا والكثيرون من الأعداء. ولعلي هنا، وأنا ابن أمة تعترف بالخير وترفض الجحود، أوجه تحية خاصة للإمبراطور ويلهلم الثاني إمبراطور ألمانيا، الذي زار ضريح صلاح الدين ليضع عليه باقة من الورود قائلا عنه، إنه الرجل الذي علّم خصومه الفروسية الحقة، ثم أهدى الضريح قبرا رخاميا بدلا من التابوت الخشبي، ولكن القبر ظل شاغرا واحتفظ للرفات الكريمة بالقبر القديم، وهو ما رأيته بنفسي بجوار القبر المكلل بالقماش الحريري الأخضر. وكان لا بد أن أتوجه أيضا إلى روح خالد بن الوليد، الذي تحتضن حمص رفاته الشريفة، وأقول له، وأنا أتذكر كلماته التي تحسر بها على نفسه وهو يموت على فراشه، كما قال، ميتة الجبناء : سيدي إن من بيننا اليوم أحياء يعيشون حياة النبات ويموتون كل يوم ميتة الأحياء، فليس من مات فاستراح بميت، وهم الجبناء فعلا، سيدي سيف الله المسلول، ولكنهم لا يعقلون. ثم أتوجه إلى محي الدين بن عربي، جسر الصوفية النقية الطاهرة الذكية بين الأندلس وما ارتبط بها والشام وما جاورها، شاكرا له استضافته للأمير عبد القادر الجزائري سنوات كان الاستعمار يدنس فيها أرض الجزائر، ثم أذن له بالعودة إلى بلاده عندما أشرق فجر الاستقلال. وأخيرا وليس آخرا كان عليّ أن أتوجه بتحية التقدير إلى الرئيس الراحل حافظ الأسد وأقول له : نحن نعيش عهدا تتنازع فيه المزايدات المناقصات، ولن أنسى ما سمعته منك يوما في الجزائر وأنت تعلق على المزايدين بصوتك الهادئ الذي اقترن بابتسامة ساخرة، مذكرا بالمثل السوري الذي يقول : »إللي ما يحب يزوج بنته، يغلّي مهرها«، وهم لم يزوجوا بناتهم، بل تنازلوا عنهن سبايا بدون حرب، وتخلوا عنهن ليعبث بعفتهن العابثون. ولعل من أول معالم حركة النضال السورية ضد الوجود الفرنسي أهميةَ الوحدة الوطنية في مواجهة العدوّ، وهي في هذا تسير باستنتاجاتها بشكل متوازٍ مع مسيرة الثورة الجزائرية، التي كانت الوحدة الوطنية فيها أقوى أسلحة الكفاح ضد المستعمر وأهم وسائل إجهاض المخططات الجهنمية، التي أهلكت وأحرقت وخربت ودمّرت، وتركت في كل مكان ألغاما خبيثة، ظاهرُ بعضها فيه الرحمة، وباطنها كلها من قبله العذاب. وأتوقف هنا لحظات لأتذكر الجزائريين الذين احتضنتهم سوريا في العقود التي تلت غزو الجزائر، وكانوا دائما جزءا من المجتمع السوري لا يمكن أن يستعمل بالنسبة له تعبير الغربة، وكان رائعا أن نسجل بأن منهم من وصل إلى سدة رئاسة الوزراء ومنهم من وصل إلى مرتبة الوزارة أو المراتب العليا في الجيش. وهكذا كان من الممكن أن يعتبر الجزائري غريبا في أي مكان خارج الجزائر، إلا في سوريا، وتتأكد بذلك مقولة الموطنين. وأعود إلى التاريخ أستقرئ بعض محطاته. فقد انتخب المجاهد صالح العليّ لقيادة الثورة السورية الأولى بعد احتلال القوات الفرنسية للأراضي السورية واللبنانية في أكتوبر 1918، وبرغم ثورات ثلاث قادها المجاهد الكبير فإنه اضطر فيما بعد إلى الاستسلام قائلا للجنرال الفرنسي : »والله لو بقي معي عشرة رجال مجهزين بالسلاح والعتاد الكافيين لمتابعة الثورة، لما تركت ساحة القتال«. ولست أدري لماذا أتذكر هنا الأمير عبد القادر، الذي حارب الفرنسيين نحو سبعة عشر عاما ثم اضطر إلى الاستسلام بعد أن خدعه الأشقاء وتخلوّا عنه، فاختار أن يستقر في ربوع سوريا حيث لقي وجه ربه بعد أن سجل وجوده محبا لسوريا حريصا على وحدة شعبها، بكل مذاهبه. وعندما أتحدث عن الوحدة الوطنية، وهي قاسم مشترك بين البلدين، لم أكن أقصد الوحدة على مستوى منطقة محددة أو مذهب ديني بعينه فقط، فهذا من تحصيل الحاصل، ولكنني كنت أقصد الوحدة الوطنية على مستوى الوطن كله. فلقد كان صالح العلي من منطقة جبل العلويين المشهورة ببأسها وقوتها والتحامها، وعرضت عليه فرنسا بدون جدوى إقامة دولة علوية بالتعاون معها، يولّى عليها تحت رعايتها وتوجيهها، ولكن الشيخ رفض ما يمكن أن يفتت الكيان السوري الكبير، وهنا حكم عليه الفرنسيون بالإقامة الجبرية، وقامت فرنسا بعد استشارات مع مجموعة من المتحالفين معها في الجبل بترغيب أخيه الأصغر سنا، الشيخ محمود، لتجعل منه بديلاً سياسياً عنه، إلا أن الأخ رفض ذلك أيضا، فجرى تعذيبه بحيث ظل يعاني من إيذاء جسدي ونفسي لازمه حتى وفاته. وبعد انتهاء الثورة السورية الكبرى 1925-1927 وعد الفرنسيون المواطنين السوريين بالاستقلال، وبدأت مرحلة صراع جديد ركز فيها السوريون على الإضرابات والعصيان المدني بينما ركز الفرنسيون على التبشير الديني – السياسي، وهو ما يُذكر بالتاريخ الجزائري القديم، حيث كانت الديانة هي المسيحية الدوناتية، وهي مسيحية جزائرية أصيلة تشبه إلى حد كبير في توجهاتها وطقوسها المسيحية الأرثوذوكسية الشرقية، وكان على رأس الحركة الدينية الأب دونا، وهو جزائري أصلا ونشأة. وأمام صمود الدوناتيين ورفضهم سيطرة الإمبراطورية الرومانية على الكنيسة الإفريقية، وتحوّلهم إلى ثورة وطنية اجتماعية، أصدر الإمبراطور قسطنطين سنة 317 م أمره باعتبارهم خارجين على القانون، وأرسلت الحكومة الرومانية قوات عسكرية عاتية أمرت بالدخول للمدن والقرى بالأوراس ومصادرة الكنائس الدوناتية وتسليمها للكاثوليك الرسميين. وكان من أصبح يطلق عليه القديس أوغستان (سانت أوغستان) وهو روماني مولود في الجزائر، رمز ذلك الصراع غير المتكافئ، وهكذا سادت الكاثوليكية المستوردة والتي كانت سلاحا في يد الرومان، تماما كما سيحدث بعد ذلك عندما غزت القوات الفرنسية الجزائر في يونيو 1830 مصطحبة معها 14 أسقفا من كبار رجال الدين الكاثوليك، بهدف مسخ العقيدة الدينية في الجزائر، وكان القادة الاستعماريون يريدون أن تكون فرنسا بالنسبة للجزائر المعاصرة ما كانته روما في السابق، أي وراثة روما وجودا ودينا ولغة، وهو ما أجهضه المجاهدون في الجزائر، وإن كنا ما زلنا نعاني من تداعياته وبقاياه.