د/ محمد العربي الزبيري يخطئ خطأ فادحا من ينسب نفسه إلى نوفمبر 1954 وهو يتنكر لمشروع المجتمع الذي بشرت به جبهة التحرير الوطني لدى الإعلان عن إشعال فتيل الثورة التحريرية. ويخطئ أكثر من يزعم أن جبهة التحرير الوطني تراث مشترك للشعب الجزائري كله. لقد كان الخطأ القاتل بالنسبة لمسار الثورة، في بلادنا، هو ذلكم الشعار الملغوم الذي رفعته جهات مغرضة، مباشرة بعد وقف إطلاق النار، والذي ملأ حيطان المدن والقرى والقائل، عبثا، إن الشعب هو البطل الوحيد، ثم تواصلت المغالطة ووقع، عمدا، تضخيمها إلى أن طغت على الحقيقة، وضاعت المبادئ والضوابط التي كانت في أساس استرجاع السيادة الوطنية المغتصبة. صحيح أن الثورة ما كانت لتنجح لولا أن الشعب احتضنها. لكن ليس كل الشعب، فهناك، وهي حقيقة لا مراء فيها، شرائح من المجتمع التزم بعضها الحياد، وانحاز بعضها الآخر إلى العدو بصفة أو بأخرى. ولا أدل على ذلك من أن عدد المسلحين ضد الثورة بلغ، عشية وقف إطلاق النار، ثلاثمائة ألف أو يزيدون، ثم هناك العملاء على اختلاف أنواعهم وخاصة جحافل الفرنكفيليين الذين ما زال معظمهم، حتى الآن، يرفض التصديق بانتهاء الجزائر الفرنسية. إن هذا الشعار المغالط، مضافا إليه ما ورد في اتفاقيات أيفيان من لزوم عدم محاسبة مناهضي الثورة على اختلاف أنواعهم، هو الذي فرض سياسة »اذهبوا فأنتم الطلقاء«، و »عفا الله عما سلف« و»كفاءات جزائرية خير من الاستعانة بالأجانب«. وشيئا فشيئا وجد أولئك المناهضون طريقا معبدا للاندماج في السلطة الوطنية على جميع المستويات، سهل لهم ذلك حدوث الأزمات المختلفة التي ما انفكت تتوالى، سياسية تارة ومسلحة تارة أخرى، وفي كل مرة كانت تلفظ من الصف عددا من الثوريين الحقيقيين، وتحدث أنواعا من الفراغ يملأه الآخرون. ولم يكن الطلقاء شرسين في البداية، إذ كانت عقدة النقص الناجمة عن مشاركتهم، بطريقة أو بأخرى، في الجريمة الاستعمارية تكبح جماحهم، لكنهم سرعان ما تخلصوا من الخوف خاصة عندما أيقنوا أن الخلاف بين رفقاء الكفاح المسلح قد بلغ حد اللارجوع، وبات سهلا عليهم التموقع تحت جناح هذا أو ذاك من المسئولين المتصارعين على السلطة. وإلى جانب كل ذلك، ترتب عن الصراع الدموي أو السياسي، على حد سواء، اختفاء معظم المبادئ والقيم التي كانت في أساس نجاح ثورة التحرير، وبدأت تتقلص الأهداف المنصوص عليها إن في أدبيات الحركة الوطنية الجزائرية أو في أدبيات جبهة التحرير الوطني. وظلت الأمور على هذا النحو تتدهور باستمرار إلى أن ترسخ في أذهان الناس، وخاصة مواليد ما بعد السبعينيات من القرن الماضي، أن الجنرال ديغول هو الذي تبرع بالاستقلال على الشعب الجزائري، وأن جبهة التحرير الوطني التي قادت الثورة في الفترة من عام أربعة وخمسين وتسعمائة وألف إلى عام اثنين وستين وتسعمائة وألف إنما هي تراث مشترك لكافة الجزائريات والجزائريين، ومن ثمة فإن من حق كل تشكيلة سياسية أو تنظيم اجتماعي الإدعاء بأنه نوفمبري. لقد بدأ الإدعاء بصوت خافت ومن جهات محدودة، لكنه، اليوم، انتشر في كثير من الأوساط وصار يملأ الحناجر من دون أدنى حياء، وهو ما دفع إلى تسويد هذه الصفحات لعلهم يعقلون. لو كان الشعب الجزائري كله نوفمبريا، أي مدركا لما ورد في بيان أول نوفمبر من تحليل سياسي وضبط للأهداف الداخلية والخارجية، ومبديا استعداده للتضحية القصوى في سبيل تجسيد كل ذلك على أرض الواقع، إذن لما كانت فترة الكفاح المسلح تزيد عن أيام معدودة. غير أن الحقيقة التاريخية تؤكد أن أغلبية الجماهير الشعبية، في الجزائر، إنما كانت، قبل انطلاق الرصاصات الأولى، تعيش في هامش التاريخ في شبه غيبوبة من أمرها. وكان لا بد من تضافر الدعوة بالتي هي أحسن واستعمال العنف بكل أنواعه لتنهض كثير من النفوس في البوادي والأرياف على وجه الخصوص، بعد ذلك كان دور القرى والمدن. وجدير بالتذكير، هنا، أن جبهة التحرير الوطني لم تكن وحدها في الميدان، بل إن العدو، هو الآخر، قد أخرج من جعبته كثيرا الوسائل الرادعة والمغرية لخنق أنفاس الثورة في المهد أو، على الأقل، لإبقاء أغلبية الشعب ملازمة للحياد فيما كان يعتبره تمردا محدودا في الزمان وفي المكان. ولقد ظل التنافس في هذا الميدان محتدا ومن دون انقطاع إلى غاية وقف إطلاق النار. فهل يمكن، والحال هذه، الادعاء بأن جبهة التحرير الوطني تراث مشترك لكل الجزائريات والجزائريين، مع العلم أن الذين رحلوا مع الجالية الأوربية المعادية للثورة لم يتجاوزوا، في العدد، خمسين ألفا؟؟. وهنا يطرح السؤال الخطير: أين ينبغي البحث عن مئات الآلاف الأخرى؟، ثم من يضمن أنهم لم يتحولوا إلى نوفمبريين؟. ومهما كانت الأجوبة على هذه الأسئلة المنطقية والمحرجة، في آن واحد، هناك سؤال يطرح نفسه، ويكون الجواب عليه هو بداية تعرية المتطفلين على رسالة ثورة نوفمبر والذين نطلق عليهم تسمية النوفمبريين الجدد. هذا السؤال هو: من هو النوفمبري الحقيقي؟. إن الجواب على هذا السؤال لا يتأتى إلا بالرجوع إلى النصوص الأساسية التي اعتمدتها أطراف الحركة الوطنية الجزائرية في الإعداد لثورة التحرير، وتلك التي اعتمدتها جبهة التحرير الوطني لدى عملية تجسيد الثورة على أرض الواقع. وهنا لا بد من الإشارة إلى الأصابع الآثمة التي لعبت وما زالت تلعب قصد بعثرة بعض الفقرات أو تعتيمها في سبيل نشر الضبابية التي تسمح لأصحاب الأيديولوجيات المناهضة بالتموقع، اليوم، في أعلى هرم السلطة بعد أن كانت وثيقة وادي الصومام قد شهرت بغيابها عن ميدان المعركة. وإنه لمن المؤلم جدا أن تكون الأصابع المذكورة قد وجدت غطاء رسميا تتستر به وتتخذه تقية تحول بينها وبين ردود الفعل الوطنية. وعندما يرجع الدارس المحلل إلى النصوص الأساسية الأصلية، فإنه ينتهي إلى أن النوفمبري الحقيقي هو الذي تتوفر فيه شروط موضوعية أهمها يتلخص في الآتي: 1 – الإيمان الراسخ بأن الجزائر، قبل العدوان الفرنسي، سنة ثلاثين وثمانمائة وألف، كانت دولة ذات سيادة معترف بها في الداخل وفي الخارج. ولمن يعود إلى سجلات التاريخ ،اليوم، فإنه سيتأكد بنفسه من أن بعض ملوك فرنسا كانوا يخطبون ود الدولة الجزائرية، ويستنجدون بها لحمايتهم من تهديدات شارل الخامس الإمبراطور الألماني، ملك إسبانياوهولندا وأمريكا اللاتينية. فهذا خير الدين بربروس، يحل، على رأس جزء كبير من قواته البحرية، بمرسيليا يوم 05/07/1543، وكان ذلك بطلب من الملك الفرنسي فرانسوا الأول. وبعد وفاة هذا الأخير استنجد نجله هنري الثاني بالبايلرباي صالح رايس، ابن الجزائر العاصمة، الذي أنجده سنة 1552 ضد فليب الثاني ابن شارل الخامس. ودون مغادرة القرن السادس عشر، تجدر الإشارة إلى ما جاء في كتاب السيد مارسيل إغرتوا الموسوم:Réalité de la nation Algérienne ص41 حول استنجاد الملك هنري الرابع سنة 1591 بحيدر داي طالبا مساعدته على تحرير مرسيليا من العصبة المقدسة. وفي سنة 1689 استنجد الملك الشمس لويس الرابع عشر بالداي شعبان. يقول عن ذلك Léon Galibert: وفي تلك الظروف المضطربة ،طلبت فرنسا من الداي شعبان حمايتها من هولندا وإنكلترا. إن الاستنجاد بالجزائر لم يكن مقتصرا على المجال العسكري، بل إن فرنسا، لم تتوقف، خاصة في وقت الشدة، عن اللجوء إلى الحكومات الجزائرية المتعاقبة تلتمس المساعدات الدبلوماسية والاقتصادية والسياسية. وإذا كنا لا نستطيع، في هذه العجالة، التعرض بالتفصيل لكل تلك المساعدات، فإننا لا يمكن أن نسكت عن أحداث العام 1793 التي طغى عليها تكتل الدول الأوربية ضد النظام الجمهوري الذي كانت الجزائر هي الدولة الوحيدة التي اعترفت به وأعلنت، على رؤوس الملإ، أنها تسانده وتتولى حمايته والدفاع عنه باعتباره صادرا عن الإرادة الشعبية . لم تراع الجزائر، في ذلك، حتى انضمام السلطان الغازي سليم خان الثالث إلى التكتل الأوربي، وقد قدرت الجمهورية الفرنسية الموقف الجزائري حق قدره، إذ نقرأ في الرسالة المؤرخة بيوم 03/05/1793 والصادرة عن المجلس التنفيذي المؤقت للجمهورية الفرنسية:"إلى المبجل المعظم سيدي حسان، داي الجزائر : إننا نعبر لكم، بواسطة قنصلنا العام، عن تقديرنا المطلق وعن رغبتنا الصادقة في إعطائكم الدليل على ذلك، كلما كانت الفرصة سانحة، وعن إرادتنا في الحفاظ على تواصل الانسجام الكامل القائم، من حسن الحظ، بين الأمتين. أما في الميدانين المالي والاقتصادي، فإن الداي حسن قد استجاب، في بحر سنة 1793 ، لطلب حكومة الجمهورية الفرنسية فأفادها بقروض لشراء القموح ومختلف المواد الغذائية من الجزائر، تشهد على ذلك الرسالة المؤرخة في 28/08/1794 الموجهة من باريس إلى "سيدي حسن، الصديق الحليف القديم للأمة الفرنسية، والتي جاء فيها: C'est ainsi que nous avons appris les facilités que tu as accordeés à nos bâtiments pour l'extraction des blés de ton pays et le prêt que tu nous as avancé pour cet objet...Il appartient à des cœurs généreux comme le tien de s'intéresser en faveur de la cause qui a pour elle la raison,la justice et la gloire.Aussi sommes nous flattés de ton amitié, jaloux de la conserver et de te donner des preuves de la notre .Nous désirons qu'elle soit éternelle. أبعد كل هذه الحقائق يبقى مجال للتشكيك في وجود الدولة الجزائرية قبل العدوان الفرنسي عليها سنة 1830 ؟. فالمحفوظات جميعها، بما في ذلك المحفوظات الفرنسية، تثبت أنها كانت تتمتع بكامل السيادة في الداخل وفي الخارج ، ولم تكن تركية ،لا شكلا ولا مضمونا، كما يحاول الزعم بعض ذوي القلوب المريضة. تشهد على ذلك سجلات التاريخ التي خلدت مكانتها بين الدول العظمى والتي كانت بريطانيا، على لسان اللورد "غرنفيل"تعتز بصداقتها، بل وتتنافس مع فرنسا في الفوز بتلك الصداقة. ولو كانت الدولة تركية كما يزعمون، فإن الدولتين المذكورتين كانتا تتجاوزانها للتعامل مباشرة مع الباب العالي، خاصة وأن بريطانيا كانت تنشط ضمن تحالف الأنظمة القديمة بما في ذلك السلطنة العثمانية ضد الثورة الفرنسية . وكما أن الدولة الجزائرية لم تكن تركية،فإن مسئوليها لم يكونوا أتراكا بل مسلمين، منشِؤهم إما الجزائر على غرار صالح رايس ومن بعده ابنه محمد، أو أرض إسلامية أخرى عربية أو غير عربية، لأن نظام الحكم في الإسلام كان يسمح بذلك، والأمثلة على ما نقول كثيرة آخرها الملك السنوسي الجزائري في ليبيا. وعن استقلال الدولة الجزائرية عن الباب العالي، فيقول المؤرخ الألمانيsemjonow :إن حكام الجزائر لم يكونوا ملوكا وراثيين، بل كانوا رؤساء جمهورية ليس لها سوى علاقة اسمية باسطنبول. ويقول المؤرخ الفرنسي Henri de Grammont :لقد كان الديوان يتخذ القرارات بسيادة مطلقة، فيعلن الحرب ويعقد السلم ويوقع المعاهدات ويقيم الأحلاف من دون أن يتساءل عما إذا كانت تلك القرارات المتخذة موافقة أو غير موافقة لسياسة الباب العالي. إن الذين لا يؤمنون بكل هذه الحقائق المدعومة بالوثائق لا يمكن أن يكونوا نوفمبريين. لكن، لكي يؤمنوا الإيمان الراسخ بوجود الدولة ذات السيادة المعترف بها في الداخل وفي الخارج، فإنهم يكونون مجبرين على التخلص، نهائيا، من عقدة النقص التي تولدت لدى بقايا الجزائريين الأهالي جراء انبهارهم أمام الفعل الإعلامي الاستعماري الذي ما زال يسعى، بكل الحيل، إبقاء الجزائريات والجزائريين بعيدا عن حقيقة ما كانت عليه بلدهم حتى يسهل على منظري الاحتلال تبرير العدوان الفرنسي على الجزائر سنة ثلاثين وثمانمائة وألف...