أرقام وإحصائيات مرعبة، وصيحات تحذير يرددها كل المخلصين الخائفين على مستقبل الجيل الصاعد، وجهود تبذل من هنا وهناك، رسمية وشعبية، أمنية واجتماعية توجّه مدافعها صوب عدو واحد صعب المراس ومتعدد الخطط والوسائل، هو المخدرات ذلك الموت الزؤام الذي حارت فيه أمم وأقوام. إن ظاهرة الاتجار بالمخدرات وتعاطيها في بلادنا في حاجة إلى وقفة أكثر جدّية، ولا مناص للجهات الرسمية من جعل هذا الملف في أعلى هرم أولوياتها، لأنه يتعلق بالشباب الذين هم عماد كل أمة وصناع مستقبلها وحماة أمجادها وإنجازاتها. إن جهودا عظيمة تبذل لإنجاز مشروعات ضخمة بل عملاقة بكل ما لهذه الكلمة من معنى، ومن ذلك الطريق السيار شرق غرب، ومشروع المليون سكن ومشروعات أخرى ثقافية وصحية واجتماعية، لكنها تظل ناقصة، وقد لا تظهر ثمراتها اليانعة المرجوّة منها، لأن الجيل الذي سيستفيد منها، أو يكون وقودها ومحركها، ما زال يعلو أعدادا كبيرة منه غبار الهشاشة الصحية والأخلاقية بسبب استمرار ظاهرة المخدرات الخطيرة، وما يتبعها بعد ذلك من آفات تبدأ بالشخص المصاب نفسه، ولا تنتهي بأسرته حيث تتعداها إلى المجتمع القريب والبعيد، وعندما تستفحل أكثر وأكثر تتجه صوب الحدود فتخترقها وتنشر سمومها عبرها، وتجربة إحدى الدول الجارة لنا شاهد حيّ ما زال ماثلا للعيان. إن جهود العلاج والمحاصرة مطلوبة وبإلحاح، لكن الأهم منها والأنفع على المدى البعيد هو الوقاية التي هي خير من العلاج، وأول طرق الوقاية هو القدوة الصالحة والتنشئة الطيبة التي تساهم في بناء جيل يعرف طريقه جيدا، ويدرك رسالته بوضوح ويعمل لتحقيقها ومن ثمّ يعمّ الخير والإيجابية والجدّية ربوع البلاد. إن جيلنا الصاعد الغضّ الطري، وهو في طريق إلى مدرسته يوميا، يرى أشكالا من القدوات السيئة المدمرة المشبوهة، ومع نقص التطعيم الخلقي اليومي سواء في البيت أو المدرسة؛ فإن صور تلك القدوات ستجد طريقها إلى العقل الباطن لدى أطفالنا وأشبالنا.. ومع أول فشل دراسي أو إهمال أسري يجد الولد نفسه على نفس طريق تلك القدوات السيئة. إن ما يراه أشبالنا يوميا محزن للغاية: شباب لا يعملون ولكنهم يأكلون وينفقون على أنفسهم بسخاء على الضروريات وحتى الكماليات والشكليات، وآخر صيحات الهواتف النقالة والكاميرات فضلا عن اللباس وتوابعه. وقد يكون العمل الظاهر للعيان لأمثال هؤلاء الشباب هو طاولة تبغ أو حراسة السيارات وما شابه ذلك، لكن الله وحده يعلم ما تحت الطاولة، وما يجري بعد حلول الظلام، والتطور الذي يحدث تدريجيا نحو أخطبوط المخدرات، حتى لو كان الشاب نظيفا وكان غرضه من الطاولة أو الحراسة شريفا. وغير هذه القدوة السيئة المتفشّية في الشوارع والأحياء، تنتشر قدوة أخرى لا تقل عنها خطورة، ويشارك فيها الكثيرون بقصد أو دون قصد، وهي تلك الصورة المتشائمة التي يتفننون في رسمها لحاضرنا ومستقبلنا، صورة لا تترك مجالا للتفكير في أي عروج نحو الأحسن والأفضل، ولا تتسامح مع أي منفذ للبحث عن أي شمعة ولو في نهاية النفق الطويل المظلم الذي يراه هؤلاء. إنها كارثة حقيقية بأتم معنى الكلمة، وذلك عندما يبلغ الفتى أو الفتاة سنّ الرشد فيلتف يمينا فلا يرى إلا تشاؤما، ويلتفت يسارا فلا يلحظ إلا سخطا وتبرّما، ويدور برأسه إلى الوراء فتلفح وجهه رياح اليأس والقنوط، ويتجه نحو الأمام فيرى سدودا وقيودا أكثرها وهمية ومصطنعة، لكن أغلب من حوله يقسم له بأغلظ الأيمان أنها حقيقية ولا طاقة له بها لا اليوم ولا غدا. والنتيجة العملية من جراء تلك القدوات السيئة بعد ذلك هي ما نراه في واقعنا وما تتحدث عنه صحفنا؛ حيث الأرقام المخيفة لعدد الذين سقطوا في دوامة المخدرات، والحوادث المخزية المؤلمة التي يقدم عليها مدمنون بسبب الحاجة إلى المال لشراء السموم والظفر بسعادة وهمية لدقائق معدودة. إن جيلنا الصاعد في حاجة ماسة إلى معالجة شاملة يكون عنوانها قطع جذور ظاهرة القدوات السيئة وما تؤدي إليه، ومنع أي بذور جديدة قد تؤدي إلى نفس النتائج، ولن يكون ذلك إلا عبر أهداف واضحة وطموحة في هذا الشأن، وبعيدة عن خطابات المناسبات والمزايدات السياسية.. ومن عرف الهدف لن يُعدم الوسيلة، فليكن الهدف واضحا للجميع، وهو حماية الجيل الصاعد وبناء المستقبل الزاهر، وعندها ستهون الصعاب، وتتهاوى قلاع الرداءة والفساد التي ساهمت وما زالت تساهم في انتشاء آفة المخدرات.