كلاهما، غادر في يوم واحد، الأول إلى الرفيق الأعلى وليدخل التاريخ من أوسع أبوابه•• والثاني ليخرج منه ليطويه النسيان مرفوقا بأشياء وأشياء.. هل هي الصدفة، أم الأقدار أرادت في وقت عظيم وعصيب أن تعيد الاعتبار شعبيا لرجل أعاد ذات يوم من السادس أكتوبر 1973 الاعتبار للجيش المصري وأزال ذل الخامس جوان 1967..؟ أقصد الاثنين، الفريق سعد الدين الشاذلي ذا الملامح الملائكية وزميله حسني مبارك، وكلاهما كانا من أبطال حرب أكتوبر. وأنا هنا لا أبخس الناس أشياءهم.. إنما إجهاض ذلك النصر العسكري، وتحويله إلى انبطاح سياسي، كما قال ذات يوم المرحوم حسين الشافعي.. أدى من بين ما أدى إليه من متاهات، أن يجد بطل العبور نفسه خارج لعبة السادات ومقامرته، ويجد زميله حسني مبارك نفسه جزءا من ذلك الانبطاح السياسي الذي كان مهندسه هنري كيسنجر. سعد الدين الشاذلي الذي انتقل إلى الرفيق الأعلى في نفس اليوم الذي غادر فيه مبارك السلطة، كان قائد الأركان.. وحسني مبارك كان قائدا للقوات الجوية، وكانت خطة »المآذن العالية« التي وضعها الشاذلي لعبور قناة السويس وتدمير خط بارليف الدفاعي، أن تنفذ القوات الجوية الضربة الأولى لتحقيق عنصر المفاجأة يتبعها عبور القوات البرية.. قد يكون الألم والحزن ضاعفا حالة القائد العسكري النحيل.. وهو يرى الوضع الذي آل إليه بلده•• وهو يشاهد الشرطة تطلق النار على الشباب المصري، الذي كان ذات يوم وقود انتصار أكتوبر، والأسى أحيانا يقتل وعندنا مات الراحل الوطني والعلامة الموسوعي مولود قاسم نايت بلقاسم حين سمع بتفجير مطار هواري بومدين في أوج الإرهاب الإجرامي بالجزائر.. كما سقط المرحوم المجاهد سليمان عميرات وهو ينحني أمام جثمان بوضياف.. راحلان في رحلتين، الأولى إلى الرفيق الأعلى وهو مصير كل بني آدم والثانية إلى المنفى الذاتي والحسرة والنواح على سلطة آلت إلى الزوال، واللهم لا شماتة.. وحتى المنفى سبق المرحوم الفريق سعد الدين الشاذلي، مبارك في سلوك هذا المسلك، متخليا عن منصب سفير وامتيازات الوظيفة، حين رأى تضحيات المصريين ومكاسب الجندية المصرية تتبخر في كامب ديفيد.. وكان ذلك الموقف، رغم أن موازين القوى لم تكن متكافئة قد أضاف لصاحبه مجدا معنويا بجانب مجده العسكري.. السبل اختلفت بين الاثنين، الشاذلي ومبارك، فاحتفظ الأول برمزيته، واستهلك الثاني مجده التاريخي في ممارسة سلطة أنهكته معنويا وأغرته ماديا، وحقيقة ورث وضعا ليس سهلا•• لكنه استمر في تعميق الشرخ بين نبض الشارع وبين حكم خان بعد أكتوبر 73 وميض الأمل الذي خلقه عبور قناة السويس وكسر عقيدة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر.. في منفاه، اختار المرحوم الفريق سعد الدين الشاذلي الجزائر التي استقبلته بكل ما يستحقه من التكريم والإعتبار، والرجل يعرف هذا البلد ويدرك عمق مؤازرته لمصر كما يدرك عمق التزامها الرسمي والشعبي بقضايا الأمة العربية، فقد سبق له زيارتها قبل حرب أكتوبر 73 بعدة شهور عندما كان قائدا للأركان.. حسني مبارك أيضا أمضى فترة وإن كانت قصيرة ببلادنا بعد هزيمة 1967 فقد كان من الطيارين الذين أرسلهم المرحوم جمال عبد الناصر إلى الجزائر بعد أن دمر سلاح الجو المصري بالكامل صباح الخامس جوان1967 كما دمرت كافة المطارات المصرية.. ما أريد قوله، وأنا أحبر هذه العجالة، أن الزمن وتغيره وتبدله، هو الحقيقة المطلقة الوحيدة، أما ما عدا ذلك من قيم فهي نسبية، أعني هنا القيم السياسية والاجتماعية والثقافية والمسلمات.. وقد سبق للفيلسوف »كانت« أن قال: ما وراء البيريني، يقصد الجبال الفاصلة بين فرنسا واسبانيا، حقيقة أخرى... وإذا كانت الطبيعة تكره الجمود، فإن المجتمعات••أية مجتمعات هي دوما حركية مستمرة، إن كانت لينة وسلمية يوما أو أياما•• فإن عدم التفاعل معها، وعدم فهمها وعدم استيعابها قد يؤدي يوما ما، لحظة ما، زمنا ما إلى الانفجار والفوضى• ذلكم ما حدث في تونس، ثم في مصر والقائمة مفتوحة.. وللمصريين مقولة شعبية بسيطة حين يقولون بتهكم واستنكار »يريد أن يعيش زمانه وزمن غيره«. سنّة الله في الكون، كما هي طبيعة الحياة، أجيال عقب أخرى.. وقديما قال الإمام الأكبر أبو حنيفة لمن عاب عليه جرأته في الاجتهاد: أولئك رجال ونحن رجال.. وعود على بدء..لقد غادر الفريق الشاذلي هذه الدنيا في موكب عسكري، إن كان متأخرا، فهو يليق بالرجل، غادر ليمسي خالدا حتى وإن فني الجسد.. في حين غادر حسني مبارك الحكم شبه هارب وبحراسة عسكرية، لينسى ويفنى وإن كان الجسد حيا.. أية أقدار هذه وأي مصير..