حساسية الظرف المحلي والدولي، واحتمال انتقال خطر ما يسمى ب »ثورات الشارع العربي« إلى الشارع الجزائري، ولدت قناعة لدى السلطة عندنا بان الحل الوحيد يكمن في التخلي عن الصرامة وتعويضها بأساليب جديدة ولو مرحلية تقتضي التساهل مع كل مظاهر تجاوز القانون أو الاحتجاجات التي تجاوزت حدود المعقول في بعض الأحيان، ومثل هذه السياسية، إذا استمرت، سوف تجعل الفوضى تكتسح كل أرجاء البلاد، وتقلل من احترام المواطنين للقانون وتزيد من إضعاف الدولة. المشكل أن السلطات تحس هي الأخرى بأن التساهل مع الاحتجاجات الاجتماعية، مشروعة كانت أو غير مشروعة، سوف يحميها من الاحتجاجات التي قد تأخذ طابعا سياسيا، فاحتلال الشارع من قبل فئات وشرائح مختلفة ذات طابع مهني أو اجتماعي من شانه تضييق الفضاء على المعارضة الحقيقية، ومن ثمة منعها بطريقة غير مباشرة من أن تعبر عن مطالبها السياسية. ويبدو أن السلطة لا زالت تعتقد بان المعارضة إنما تشكل خطر عليها، وأنها تهدد الاستقرار السياسي في بلد عاش لسنوات طويلة كل أنواع الاضطرابات، وذاق الأمرين بفعل الفوضى السياسية التي واكبت سنوات الإرهاب، ونتذكر جيدا النقاش الذي ساد خلال أكثر من عشرية حول الانتقال الديمقراطي وتجاوز المراحل الانتقالية التي أصبحت ملازمة للمشهد السياسي في البلاد، وجرى التركيز بشكل خاص على مسألة استرجاع هيبة الدولة، وظهر انقسام واضح بين طرحين، طرح يرى بان استرجاع هيبة الدولة يمر حتما عبر الممارسة الديمقراطية واستعادة الحريات وضبط العملية السياسية وسيادة القانون و فرضه على الجميع، وطرح آخر يرى بان رد الاعتبار لابد أن تواكبه »العصا« وتشديد الخناق على المعارضة وتصفيتها إن اقتضى الأمر وتضييق مجال الحريات واتهام كل من يعارض السلطة بالتحالف مع التيار الأصولي حتى لا نقول مع الإرهابيين، علما أن هذا التيار ساد خلال سنوات الاستئصال وخلال المرحلة التي فرض فيها الحل الأمني واستبعدت خلاله المصالحة واتهم أصحابها بالخيانة وحتى بالعمالة للخارج. صحيح أن استعادة هيبة الدولة أصبح من الأمور الممكنة خلال العشرية الأخيرة بفضل ورشات الإصلاح الجريئة، لكن ما بني لم يكن خاليا من النقائص ولم يسمح باستعادة المسيرة السياسية الطبيعية وتكريس الممارسة الديمقراطية في أبهى صورها، حتى وإن نجحت السلطة خلال هذه المرحلة من فرض سيادة القانون، وتحقيق استقرار أسياسي خاصة بفضل بناء المؤسسات المنتخبة، وبفضل التحالف الرئاسي، لكن في المقابل بقي الشيء الكثير الذي يتهدد هيبة الدولة من بينها استشراء الفساد، وتضييق رقعة الممارسة الديمقراطية خاصة مع رفض اعتماد أحزاب جديدة، مع العالم أن مجال الحريات لم يصاب بأذى كبير حتى في ظل حالة الطوارئ، وعلى العكس ربما ازدهرت حرية الصحافة، وتم تسجيل تحسن كبير لوضعية حقوق الإنسان بشهادة جل التنظيمات الحقوقية الدولية. اليوم الجزائر تقف أمام إشكاليتين، إشكالية تتعلق بطريقة التعاطي مع حمى الاحتجاجات التي تنتقل كالنار في الهشيم من بلد عربي إلى أخر، وإشكالية التعاطي مع المطالب الاجتماعية من جهة وبالمطالب السياسية من جهة أخرى، فلا يمر يوم واحد إلا وغزت فئات اجتماعية أو مهنية شوارع البلاد للتعبير عن تذمرها وغضبها والمطالبة بحقوقها، ويبدو أن الظروف أصبحت جد ملائمة لخروج كل أشكال التعبير الاجتماعي إلى العلن في ظل حالة الكبت والمنع التي كانت موجودة، وهذا قد يكون طبيعيا رغم وجع الرأس الذي يجلبه للسلطة، ورغم الخطر الذي قد يمثله على السلم والاستقرار الاجتماعي، لكن الخطر هو أن يصبح الشارع ملاذا حتى للذين لا حق لهم، ووسيلة يلجا إليها حتى المنحرفون والذين يتجاوزون القانون، فدخول عصابات »البزنسة« بتذاكر الدخول إلى الملعب عنابة في مواجهات مع قوات الأمن، وما حصل بوادي قريش بالعاصمة، وتحرك العديد من الأحياء العشوائية التي أقامها أصحابها بشكل غير قانوني فوق أملاك الدولة، كلها مؤشرات لحالة بفوضى وغياب الدولة والتساهل مع هكذا أوضاع قد يجعل دائرة العنف وحركات الشارع تتوسع بشكل جنوني وقد يصل الأمر مستوى لا يمكن التحكم فيه.