تحول الحديث عن »إحالة الأفلان إلى المتحف« إلى ملجأ للكثير من المهزومين على مستوى الجبهة السياسية، ورغم المحاولات المتكررة من بعض الشخصيات لجلب الانتباه نحو هذا الطرح القديم – الجديد، باعتباره، في رأيهم طبعا، قد يشكل حلا ممكن لأزمة الشرعية والديمقراطية في الجزائر، يتضح في كل مرة بان المتحف إنما هو سلاح يستعمل في حرب على الجبهة، يخوضها البعض من منطلق غريزة الانتقام، ويخوضها البعض الأخر من منطلق فكري ومرجعيات سياسية معروفة. الملاحظ أنه في كل مرة تكون فيها البلاد أمام منعرج سياسي حاسم، أو تطرح قضايا سياسية كبرى لها علاقة بطبيعة النظام السياسي وبالخيارات السياسية للبلاد، أو بتكريس الممارسة الديمقراطية وإطلاق العنان للحريات في شكلها الموسع، في كل مرة يحدث هذا، ترتفع أصوات من هنا وهناك تطالب بمحو حزب جبهة التحرير الوطني من الحياة السياسية والحزبية في البلاد، ويعلو نفس الصوت أيضا للمطالبة بإحالة الجبهة على التاريخ وإدخالها المتحف باعتبارها ارث مشترك لجميع الجزائريين باختلاف توجهاتهم، ومشاربهم السياسية والإيديولوجية. هؤلاء ينقسمون إلى ثلاثة أقسام أو أكثر، فمنهم أسماء تاريخية لا يمكن تجاوزها تعتبر نفسها من صناع الجبهة، تعتقد انه من حقها أن تضع الجبهة حيثما شاءت، ويعتقد جزء من هؤلاء بأن الأفلان وجد للنضال من أجل الاستقلال فكان حركة جامعة التحق بها كل من امن بالنضال التحرري، وبانتهاء هذه المهمة التي أدتها الجبهة بكل أمانة، لا بد من وضع الجبهة في المتحف لحفظ مكانتها وقدسيتها، فالمطلوب هو أن تظل الجبهة ذلك الإطار المقدس الذي تنصهر فيه مختلف التوجهات، إطار له بعد تاريخي مرتبط بأكثر المراحل التي مرت بها البلاد إشراقا، تخلى فيها الجميع عن باقي قناعاتهم من اجل الالتحام حول قناعة واحدة وهي دحر الاستعمار وتحقيق الحرية والاستقلال. هناك تيار آخر قريب من التيار التاريخين ويعتقد هذا التيار المشكل من بعض المشتغلين في الحقل السياسي أن ضمان حظوظ متساوية بالنسبة لجميع الأحزاب التي ولدت بفضل أول دستور تعددي وكان في 23 فيفري 1989 كان يتطلب إزاحة الأفلان من الساحة السياسية باعتباره ارث مشترك لكل الجزائريين أثناء الثورة، وباعتباره الحزب الواحد الذي قاد البلاد لعقود بعد الحصول على الاستقلال، ويتخوف هؤلاء من الشرعية التاريخية والثورية التي تتمتع بها جبهة التحرير الوطنين فهذه الشرعية في تقدير الكثيرين تعطي للحزب العتيد أفضلية في السباق السياسي والنزال الانتخابي. لكن لا يمكن أن نغفل تيار آخر ينتمي إلى المطالبين بإحالة الأفلان على المتحف، فهذا التيار لا يحمل أي قناعة حقيقية لحماية الجبهة من دنس السياسة والتحزب التي ربما تبرر عند البعض المطالبة بإقصاء الجبهة من الحياة السياسية، فما يهمهم بالدرجة بالأولى هو الانتقام من حركة سياسية تدافعت عن أفكار لا تناسبهم، وتتبنى خطا سياسيا وايدولوجيا وثوابت تقلق البعض الذين لا يؤمنون بالمسار الذي سارت عليه البلاد خاصة فيما يتعلق بالقضايا القومية، والقضايا المرتبطة بالدين واللغة والهوية الوطنية، وهؤلاء هم الأخطر على الأفلان من الصنفين السابقين لأن أطروحاتهم المتعلقة بالمطالبة بإحالة الأفلان على المتحف تأخذ طابعا يربط بين تحقيق هذا »الهدف« وبتكريس الممارسة الديمقراطية وتحقيق الحريات وربما تجسيد تلك المطالب المتعلقة بتحقيق التغيير الذي تحول إلى أشبه ما يكون بموضة العصر، تكتسح العالم العربي وتخلف وراءها دموع و دماء غزيرة. اسطوانة قديمة.. وبالعودة قليلا إلى الوراء سوف نرى بأن أطروحة إحالة الأفلان على متحف التاريخ ليست وليدة اليوم أو الأمس، فقد واكبت كثيرا من المحطات السياسية الهامة في تاريخ البلاد، بل شكلت هذه الأطروحة أحيانا »برامج سياسية« بالنسبة للبعض في إطار تصفية حسابات يعود بعضها إلى الصراعات التي كانت موجودة أثناء الثورة وحتى قبلها، خلال مرحلة الحركة الوطنية خاصة في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي. لقد نسبت للراحل محمد بوضياف هذه المقولة مباشرة بعد هدوء عاصفة أزمة صائفة 62، والواقع أن بوضياف طرح الفكرة من زاوية الصراعات التي تفجرت بعد الاستقلال، ومن زاوية التصورات التي كانت موجودة حول طبيعة النظام السياسي الواجب اعتماده بعد خروج الاستعمار، وجاء الدور على البعض ليتبنى هذه الفكرة التي يعتبرها الكثيرون مجرد »بدعة سياسية« ويشهرها متى سنحت الفرصة. هذه »البدعة« توظف ضمن إطار حروب سياسية تستهدف الحزب العتيد، وهكذا سار البعض على طريق دعاة المتحف، لاعتبارات خاصة جدا كما فعل السيناتور السابق جمال الدين حبيبي الذي حاول منذ أشهر التموقع السياسي من خلال المطالبة باستعادة الأفلان باعتباره، كما قال، إرثا مشتركا لكل الجزائريين، وحاول قيادة زمرة من الشخصيات التي تناصره في هذا الطرح، علما أن حبيبي كان قد وصف الأفلان بأنه » جثة سياسية لم تجد من يدفنها« وزعم بأنه قد أضحى مرتعا للخونة والحركى، ومثل هذا الكلام يعطي صورة واضحة عن طبيعة الحروب التي يقوم بها دعاة المتحف وطبيعة الأفكار التي يتبنوها والتي لا نجدها أحيانا حتى لدى ألد أعداء الجبهة والمعادين التيار الوطني عامة. ويبدو أن الفراغ السياسي، أو بالأحرى العطالة السياسية، التي نالت من العديد من الأحزاب والشخصيات السياسية، جعلت البعض يحول حزب جبهة التحرير الوطني إلى قضية يتلهى بها بشكل يومي متواصل، ومن يتحركون على محور التحامل على الحزب العتيد هم في الغالب عبارة عن »سياسيين متقاعدين«، أو بالأحرى شخصيات أحيلت على البطالة السياسية أو أقصيت من المضمار السياسي لأسباب مختلفة، فراحت تتحين الفرص التي تظهر خلال الفتن أو الصراعات، أو خلال المؤامرات التي تحاك ضد الجبهة خصوصا في أكتوبر 88 وبالعودة إلى تفاصيل ما حدث سوف يكشف النقاب عن جزء هام من الأسرار المطمورة حول خلفيات الأحداث وأهدافها لأن من ضمن هذه أهداف الأحداث أيضا القضاء على الأفلان بشكل نهائي، وليس إحالته فقط على المتحف، ولعل ثاني اكبر مؤامرة هي تلك التي عرفها الحزب في منتصف التسعينيات مع اشتداد الفتنة الأمنية وميلاد التجمع الوطني الديمقراطي في بعض زوايا صناعة القرار الذي كان بين أيدي من كانوا يسمون ب »الجانفيريين« الذين يتحملون مسؤولية توقيف المسار الانتخابي في البلاد. اليوم تعود أطروحة المتحف ويتبناها البعض في إطار المشاورات التي شرعت فيها لجنة عبد القادر بن صالح مع الطبقة السياسية والحركة الجمعوية والشخصيات الوطنية، لتجسيد رزنامة الإصلاحات السياسية والدستورية التي أعلن عنها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في خطابه الأخير للأمة، فالتخلص من جبهة التحرير الوطني هو شرط ضروري للتغيير وتحقيق مشروع تعميق المسار الديمقراطي وتكريس الحريات، والتخلص من الجبهة هو الحل لكل مشاكل الجزائر في تقدير بعض المحسوبين على المعارضة أو من الذين ينتسبون على هواة السياسة ويسمون تجاوزا برؤساء الأحزاب، فشخص مثل بوعشة مثلا، أو بوكورح أو من شابههما من الذين لا يتذكرون الشعب الجزائري إلا خلال المواعيد الانتخابية، والذين يعودون إلى الواجهة كلما ظهرت في الأفق مواعيد سياسية قد تحمل معها مكاسب وامتيازات، يطرح فكرة إحالة الأفلان على المتحف من دون تقديم للجزائريين مبررات سياسية مقنعة عما يسميه بتعطل عملية الدمقرطة بسبب الجبهة التي يحملها بشكل غير مفهوم كل مشاكل البلاد، مع أن أكثر مراحل الجزائر سوداوية هي مرحلة بداية التسعينيات من القرن الماضي التي أقصي فيها الحزب العتيد، ورغم أنف الجزائريين من الساحة السياسية بالقوة وبالتزوير الشامل والموجه وكان ذلك في محليات وتشريعيات 97. ويبدو أن التجاذب الذي يعرفه حزب جبهة التحرير الوطني منذ فترة، وكل النزاعات الحقيقية أو الصورية التي تحصل داخل جسد الحزب أو على أطرافه، وظهور جماعة ترفع شعار »التقويم«، تجمع من حولها بعض القيادات وبعض المناضلين الغاضبين على مواقع سياسية فلتت من بين أيديهم أو معارك سياسية خسروها أو مناصب لم تكتب لهم خلال الاستحقاقات الأخيرة التي خاضها الأفلان، تشكلت تربة جد مناسبة لعودة »أطروحة المتحف« إلى الواجهة، وكان بالبعض يقول »إما أنا أو نهاية العالم«، أي بتعبير آخر فإن كل من يزاح من المعركة ويخسر منصبا أو موقعا يصبح همه الوحيد هو كيف يهدم الجبهة على رؤوس المنتسبين إليها من قيادييها ومناضليها. الشرعية الشعبية و»حزيبات« المواسم.. البعض يطرح تساؤلات جدية، هل إحالة الجبهة إلى المتحف هي فعلا ضرورة لتكريس المسار الديمقراطي وإعطاء حيوية للنشاط الحزبي في البلاد، أم أنه مجرد »بدعة سياسية« يشتغل بها من ليس لهم أي فرصة للحصول على مواقع سياسية أو استعادة بمواقف فقدوها؟ والواقع أن استمرار أحزاب عريقة في النشاط السياسي لم توجدها »العبقرية« الجزائرية، بل هو معمول به في الكثير من الديمقراطيات العريقة أيضا، فمن غير المعقول أن يحال حزب من الأحزاب على التقاعد السياسي أو يوضع بكل بساطة في المتحف، لأن الأغلبية من الناخبين هي المخولة اتخاذ مثل هذا القرار والقول إن كانت تريد بقاء هذا الحزب أو فناؤه، ثم ما الذي يجعل أي حزب عريق يقف حاجزا في وجه تعميق المسار الديمقراطي، ألم يقود الأفلان بنفسه عملية الانتقال الديمقراطي وسرعان ما أقصي هو نفسه من الساحبة السياسية بطريقة غير قانونية وغير ديمقراطية، وعاد إلى الواجهة وانتزع الأغلبية انتزاعا وبطريقة مشروعة وديمقراطية باعتراف الجميع، وحقق انتصارات باهرة في جميع الاستحقاقات المحلية والتشريعية التي خاضها خلال السنوات الماضية، وانتزع مكانته في الساحة السياسية وداخل الهيأة المنتخبة عبر الصندوق وليس عبر الكواليس أو في الحجرات المظلمة التي تمت فيها فبركة قوى سياسية كلفت باغتيال الجبهة ومحوها من الوجود، فهل يحال الأفلان على المتحف لأنه انتصر ولأنه جمع من حوله أغلبية في وقت عجزت فيه الكثير من »الحزيبات« على مر السنوات الطويلة الماضية على ملأ قاعات لا تتسع إلا لبضعة العشرات من الأشخاص، بل إن بعض المطالبين بالمتحف لا يزال غارق في النتائج الصفرية كلما حان موعد الانتخابات، ولا يقدر حتى على جمع الإمضاءات المطلوبة للمشاركة في الاستحقاق الرئاسي، ثم هل يحال الأفلان على المتحف لكونه كرس الديمقراطية داخل صفوفه، فمنح فرصة للتداول على قيادة الحزب ، في وقت تحول قادة جل التشكيلات السياسية إلى صور مصغرة للمستبدين العرب الذين يقبعون على صدور الخلق لعشرات السنين، فهذا سعدي قد حكم حزبه لأكثر من 20 سنة، ونفس الشيء يقال عن الكثير من أمثاله الذين ابتليت بهم الطبقة السياسية في الجزائر. لا أحد يستطيع أن ينكر بان الجبهة تحوز على شرعية تاريخية وهذه حقيقة لا تقلق لا الجبهة ولا أي من الجزائريين، وأمام باقي المنافسين في الساحة السياسية معارك كثيرة قد يثبتون من خلالها ولاءهم للوطن، لكن الأمر المؤكد الذي لا بد من الإشارة إليه هنا هو أن بقاء الأفلان في الحكم ليس بفضل الشرعية التاريخية بل بفضل الشرعية الديمقراطية التي منحها الشعب الجزائري لحزب أكد بما لا يدع مجالا للشك بأنه لا يزال جامعا للسواد الأعظم من الجزائريين، حزب استطاع بفضل دفاعه المستميت عن ثوابت الأمة وقيمها العريقة الدينية والغوية والتاريخية أن يحقق الاستقرار ويجمع بين الجزائريين بعد سنوات من التشتت ومن الفتن التي كادت أن تلقي بالبلاد في المجهول، فساهم الحزب العتيد في عودة السلم إلى البلاد بعد سنوات من القتل والتدمير، ومن للمسار السلمي ولخيار الوئام والمصالحة ة الوطنية الذي دعمه في وقت كانت قوى كثيرة تتبجح بالاستئصال وتدفع نحو الفتن والتقاتل بين الجزائريين، وساند الحزب العتيد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة ولا يزال من منطلق قناعته أيضا بتطابق البرامج بين الأفلان والرئيس ووحدة الأهداف المتمثلة في استعادة أمن واستقرار البلاد والعودة إلى مسار التنمية وتخليص صورة الجزائر من الأدران التي ألصقت بها خلال السنوات الأخيرة،وكانت الجبهة الداعم الأمين لمسار الإصلاحات التي تم الشروع فيها منذ سنة 2000 ولا تزال تعتقد بان الإصلاحات السياسية والدستورية التي أعلن عنها الرئيس بوتفليقة هي خيار سيد لبلد يريد التغيير الهادئ والسلس،وهذه الحقائق وأخرى كثيرة هي التي تفسر قوة الأفلان وتجيب عن تساؤلات الذين احتاروا لسنين طويلة لما لم يحال الأفلان على المتحف رغم كل المؤامرات التي أحيكت ضده؟